حين نقول المال العام في نظر الإسلام، فهو يعد أحد أهم بنود البناء لدى الفرد المسلم، فبه يبني دنياه ويستثنى به في أخراه، لذلك نجد أن التشريع لا يخلوا من بنود تحفظ للمسلم ماله وتحثه أيضا على تطويره وإيجاد مؤسسات رقابية شعبية ورسمية لحمايته، وقد عرفت الدولة الإسلامية على مر التاريخ بمختلف مؤسساتها المالية، التي تنظم وتهيكل رؤوس الأموال بشكل متطور ومتجدد.
رحلتنا لا زالت متجهة نحو الأعماق من خلال الإجابات التي سيطرحها دكاترتنا الأفاضل في الحلقة السابعة من برنامج بيان للناس. 

«هدر المال العام».. بهذا نتأخر ولا نتقدم! 

ألفت كثيرًا في الاقتصاد الإسلامي، نريد أن نعرف عن التأصيل للمال العام في المجتمع الإسلامي؟
د. علي القره ياغي:
المال العام يُقابل المال الخاص، والمال الخاص هو الخاص بالشركات الخاصة والأفراد، والمال العام هو للدولة وللأمة، وفي الفلسفة الإسلامية والاقتصاد الإسلامي هناك ثلاثة أنواع:

  1. المال الخاص للأفراد والشركات.
  2. مال الدولة.
  3. مال الأمة.

فالمال العام يشمل أموال الدولة، كالصناديق السيادية اليوم، وأموال الأمة من المعادن، أصل الفقهاء القدامى تأصيل المال العام تأصيلًا جيدًا، ووجدنا معظم نظريات التأصيل -حتى في الغرب- مقتبسة أو مستفيدة من هذه النظريات، ومن أهمها أنهم وضعوا للمال العام مجموعة من الضوابط العامة؛ أن صرف هذه الأموال يجب أن يكون للمصلحة العامة، ولا يجوز أن يكون فيها مجاملة أو شيء آخر، حتى الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: (والله إني لا أعطي ولا أمنع، وإنما أنا قاسم، أضعه حيثما أمرت).
 ولذلك علق ابن تيمية على هذا الحديث فقال: (وهذا الرسول وهو رسول الله، لا يستطيع أن يتصرف في هذا المال إلا حيثُ وضعه الله له)، فالمال العام في الإسلام له حساسية كبيرة جدًا، نعبر عنه في الإسلام بالسياسة المالية والسياسة الاقتصادية، فالأولى هي التي تتعلق بالمال العام وكيفية جمعه وإنفاقه والحفاظ عليه واستثماره، ومنع كل من تسول له نفسه الاعتداء على هذه الأموال.
فعمر عندما كان يوزع المال العام، قال له شخص: (جزاك الله خيرًا) فغضب عمر وقال: (هذا مال الله وليس مالي، فهو لكم، وأقسم أنني سأوصل هذا المال إلى الراعي في جبال صنعاء)، فاليوم عندما يقال مكرمة السيد الرئيس الفلاني يقع الخطأ، أهم شيء في المال العام هو محاربة الفساد المالي والإداري، سيدنا عمر أرسل رسالة إلى معاذ وخالد وقال: (بينوا لي أموالكما من أين لكم هذه الأموال)؟
فهل يجوز للحاكم أن يستخدم المال العام لتطوير حزبه؟
لا يجوز أن يأخذ الحزب أو أقارب الرئيس أو حتى الرئيس نفسه إلا بما تريده المصلحة العامة وحسب الدستور، فنسبة الفساد في العالم العربي والإسلامي من 60% إلى 90%، معنى ذلك أن 90% من المال العام لا تصرف في وجهها الصحيح، ولذلك نحن لا نتقدم بل نتأخر.  

«مال الله».. كيف يُجمع؟ وما قواعد صرفه؟  

بالنسبة للتصرف في المال العام، كيف يكون التصرف بالمال العام من جهة الرئيس؟
د. عبد المجيد النجار:
للمال العام في الإسلام حرمة كبيرة تلامس أن يكون مقدسًا، حتى قيل في المال والمال العام خصوصًا؛ أن المال مال الله، ولهذا جاءت العناية الكبيرة جدًا فيما يتعلق بالمال العام، وأول نقطة يجب أن نعرفها هنا، هي كيف يُجمع المال العام، كثيرٌ منه يجمع من الأفراد والجماعات، وهنا ينبغي أن تكون الدولة متشددة وحازمة في جمع المال ممن يجب عليه أن يدفع المال؛ سواءً زكاة أو ضرائب، ويجب مقاومة التهرب الضريبي أو ما يتعلق به.
المال الخاص في الفقه الإسلامي والفلسفة الإسلامية، يشبه أن يكون للأمة ولعامة الأمة، وفي القرآن (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ)، بالرغم من أنها أموال الخاص، ولكن أُسندت إلى مجموع الأمة، ثُم صرف المال العام، فهو ملك الأمة مباشرةً.  فالقاعدة الأساسية في صرف المال العام؛ أن يكون بإذن الأمة عبر برلمان يحدد مصاريف المال والوجوه التي ينفق فيها، ولا ينبغي لرئيس الدولة أن يتصرف بالمال العام من تلقاء نفسه، الأمة هي التي تحدد، وعلى القائمين على التنفيذ أن ينفذوا، بعد هذا يأتي موضوع المراقبة، أن تكون شديدة وأن  تكون هناك محاسبة.
فكيف نحافظ على المال العام في أجواء المناقصات لدى رجال الأعمال؟
هذا طبعًا نوعٌ من الفساد الذي يجب أن يذكر، المال العام في صرفه وفي إسناده ينبغي أن يكون عبر قواعد وشفافية تخضع للمراقبة، والمراقبة تكون من جهة الأمة مستقلة، حتى تقطع تلك المسارب التي يتسرب منها المال العام في غير حق.  

«الخلوة والسلطة».. كيف نحمي الثروة؟   

هناك صراع كبير بين الرأسمالية والشيوعية حول المال الخاص والمال العام، فكيف أصبح الإسلام متميزا بين معسكرين فيما يتعلق بالأمور المالية؟
د. نور الدين الخادمي:
هذه إحدى المقاربات القديمة، عندما كنا نتحدث عن الاقتصاد الإسلامي بمنظور يساري أو اشتراكي أو شيوعي، وبمنظور رأسمالي، كنا نقول في ذلك الوقت: بأن الإسلام جاء وسطًا بين المفهومين، من جهة المواءمة بين المال الخاص والعام، باعتبار أن المال الخاص هو فطرة إنسانية، وكل إنسان يحب أن يكون مالكا لشيء أو يتصرف بمال خاص له، وبين الملكية العامة التي هي ملكية الدولة، وهذه المواءمة لا بد أن تبنى على المفهوم العام للمال العام، ثم على تحويل ذلك إلى نظم وإجراءات.
 ونحن اليوم في دولة حديثة، الحاكم يحاسب على المال العام، من جهة بعض الانحرافات التي تؤخذ من المال العام عن طريق الأحزاب، فقد جاءت التدابير والإجراءات القانونية لوضع حد لتجاوز السلطة في الثروة، والحاكم إذا اختلى بالثروة كان الشيطان ثالثهما، فالإثم يتعاظم بالخلوة والسلطة، ودور المجتمع المدني يجب أن يكون مهما جدًا ومتواجدا.  


                                                                

«الضريبة».. هل تُغني عن الزكاة؟ 

كيف سيكون وضع المسلم الملتزم في دولة ظالمة عندما يدفع الضريبة والزكاة، أليس دفع الضريبة والزكاة تكلفين في آنٍ واحد؟

د. أحمد الريسوني: الضريبة شيء والزكاة شيء، وإن الضريبة لا تلغي الزكاة، ولا تقوم مقامها، الزكاة مخصصة في مصاريف محددة، أما الضريبة فهي لعموم الأمة وللمصالح العامة يدخل فيها الأغنياء والفقراء، وهناك عدة ضرائب يستفيد منها الأغنياء أكثر من الفقراء، مصالح في خدمة الطرق والأمن الاقتصادي.
فالزكاة لا غنى عنها وكذلك الضريبة، والزكاة مصاريفها محددة، والضريبة يجب أن تكون عادلة في جبايتها وليس فيها تمييز، وبعد ذلك تصرف بالمحاسبة والرقابة.
 وهذا التصرف في المال العام يعتبر منذ عصر الصحابة المعيار بين الحكم الفاسد والحكم الراشد، سيدنا عمر -صاحب الحساسية المفرطة تجاه الأمانة- سأل حذيفة فقال له:(أملكٌ أنا أم خليفة)؟ فقال له: (إن أنت أخذت درهمًا من غير محله ووضعته في غير محله، فأنت ملكٌ لا خليفة، وإن أخذت درهما ووضعته في محله فأنت خليفة لا ملك)، اهتم العلماء عبر التاريخ -الذين ميزوا بين الملك والخلافة- بهذا المعيار وثبتوه في المال العام عندما يكون فيه التصرف أمينا ورشيدا، المال العام هو العلامة الفارقة بين الحكم الرشيد والحكم الفاسد.   

«شمعة وسط الظلام».. أمثلة مشرقة  
 

كيف نقارن بين الأمثلة الجميلة والأمثلة السيئة في المال العام لدى الحكماء على مر التاريخ؟

د. علي الصلابي: سيدنا عمر بن عبد العزيز لما تولى الحكم بدأ بالسلطة الحاكمة، بدأ بإرجاع المظالم إلى أهلها والتي فعلها الأمويون، وقد أخذ من زوجته فاطمة هدايا والدها ووضعها في بيت مال المسلمين، حتى دفع هذا الظلم المالي الذي وقعت فيه الأسرة الأموية، حاربه وأقام العدل. 
تعامل عمر بن الخطاب مع المال العام أنه كمال اليتيم، وبالتالي نحنُ نحاول أن نشعل الشمعة في وسط هذا الظلام بكيفية الخروج من الشبهات، والحفاظ على المال العام، أبو بكر الصديق كرئيس للدولة في عصره، كان له مُرتب كأجير عند الأمة، ولما حضره الموت باع البساتين، وأرجع المال إلى بيت المسلمين، فهذه معانٍ رفيعة جدًا، ليت الجميع يطبقها.  
                                                                      

الرقابة تسأل.. «من أين؟»  

من يحمي المال العام؟ وما عقوبة سارق المال العام والمشرف عليه؟

 د. علي القره ياغي: كانت حماية المال في عصر الخلافة الراشدة منوطة بالأمراء والرؤساء وأهل الحل والعقد، فكان الخليفة يشرف بنفسه على المال، ويتساءل البعض عن ماله وكميته، قبل أن يصبح وليًا، ثمُ إذا زاد شيئًا على ماله الأساسي يُسأل من أين جلبه؟
إذا كان الرئيس سارقا، يجب أن تتم محاسبته، وأن يكون هناك حماية للمال العام من خلال البرلمان ووسائل الإعلام والرقابة الإدارية العليا.