أكسجين الحياة.. لا تُطفئوا سرجكم!
سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر..
إن الذي فطر الإنسان خط له سبل قوام حياته. وحياته التي أعني هي التي عرفها خالقنا بقوله: "أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ" سورة الأنعام. ولذلك جعل الله لعباده محطات يتزودون بها في طريقهم إليه: "إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ". محطات يومية هي تلك الصلوات الخمس المفروضة المروضة للنفوس. وهنا قد يتسلل لبعض ذوي الهمم وهم في خضم أعمالهم أن تلك الصلوات قد تقطع الأعمال، ثم هم ليسوا في لهو. ولكن ليعلموا أن لتلك الوقفات لأداء الصلوات دفعات وشحنات، وهي متمة للأعمال مهما جلت، جالبة للأرزاق، قال الله سبحانه: "وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ۖ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا" سورة طه.
سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر
ثم لهذا الإنسان محطات موسمية، مجددة للحياة لا أقول الروحية فقط بل والمادية- وقد لاحظنا ارتباط عبادة الصلاة بالأرزاق- ومن هذه المحطات هذه الأيام المباركات، خيرة أيام الدهر، أيام العشر. فتزود منها لما بعدها ولا تظنها تقطعك عن طريقك بل توصلك.
ولو قارنا حال اجتهادنا في هذه الأيام مع سلف الأمة وجدنا بيننا وبينهم مفاوز، حتى نقل عن سعيد بن المسيب أنه كان يجتهد في هذه العشر اجتهادا حتى ما يكاد يقدر عليه ويقول: "لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر".
وإني أزعم أن أول صاد لنا عن دركهم، هو عجمتنا العامة وعجمتنا في فهم كلام الشارع خاصة. وهذا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم طالما قرأناه ولكن هل فهمناه كما فهمه أهل اللسان؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر"، فقالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء".
وتأمل النفي المفيد للحصر "ما من أيام"، وذكر حب الله "أحب إلى الله"، ثم حصر عدد الأيام وقلتها "من هذه الأيام العشر"، مع عظيم الأجر الذي دل عليه اسم التفضيل "أحب"، والاستغراب الذي دل عليه سؤال الصحابة الكرام "ولا الجهاد في سبيل؟"..
سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر..
أيام العمر بالذكر تُعمر
هذه هي الأيام أقبلت، فكيف عليها أقبلنا؟ قد تقول عملك أيضا عمل صالح، وحديثي مع أهل الهمم الراجين نهضة أمتنا بين الأمم، فأقول هو ان شاء الله كذلك، ولكن قارن بين فاضل ومفضول.
وودت لو قرأت الأمة كل الأمة باب أسماء التفضيل من علم النحو، قراءة تبصر وتفكر، لنتعلم كيف ننظم أولوياتنا، وهذا أحد أكبر معوقات نهضة الأفراد.
فهذه أيام الذكر والذكر أولا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من أيام أعظم عند الله، ولا أحب إليه من العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل، والتكبير، والتحميد" مسند الإمام أحمد.
وهنا انتبه لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: " فأكثروا" فهذا القول يؤزك لتكون هذه الأيام هي أكثر أيام حياتك ذكرا. واعلم أن المجاهد وهو في ساحة الحرب أمر بالذكر، فالذكر ليس للبطالين والقاعدين، بل للمجاهدين العاملين، قال الله تعالى: "يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (سورة الأنفال الآية 45). بل وذكرك في هذه الأيام يفوق الجهاد في سبيل الله في غيرها من الأيام إلا إن قدم المجاهد ماله ونفسه لله ولم يرجع بذلك من شيء.
سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر
وحتى لو كنت أشغل من ذات النحيين، لا تحرم نفسك الذكر ولو بلسانك فقط، ولله در أحد الصالحين الذي أجاب قوما سألوه فقالوا: "نحن نذكر الله تعالى ولا نجد في قلوبنا حلاوة؟ فقال: احمدوا الله تعالى على أن زين جارحة من جوارحكم بطاعته".
وقوف عرفة.. زينة العشر
لإن كان شرف ليلة القدر قد عم العشر الأواخر من شهر رمضان، فإن يوم عرفة قد أتم زينة العشر من ذي الحجة الحرام. وإذا ذكر يوم عرفة ذكر الوقوف، وتأمل وقارن بين قيام ليلة القدر ووقوف عرفة، في أشرف ليلة وخير الأيام، واسأل معي: أين القعود؟ إنه دين القيام ودين الوقوف لله لا لغيره. ودونك حياة القدوة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي مذ جاءه أمر ربه: "يا أيها المدثر قم فأنذر" قام حق القيام، وبذلك يشهد أهل الإيمان، فقد أدى الأمانة وبلغ الرسالة صلوات ربي وسلامه عليه.
إنه يوم المباهاة واليوم المشهود، يوم خير الدعاء ويوم الذكر يوم لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" رواه الترمذي.
فانظر إلى عظمة اليوم وعظمة الذكر وعظمة معنى الذكر وموضوعه، إنه التوحيد سبيل تحرر العبيد.
وتكرار الذكر والإكثار منه مدعاة التفكر فيه وتشرب القلب معناه. وإذا ذكرت فلا تشتغل بالذكر عن المذكور، افرح بذكره لك جل جلاله، وبمعيته لك. وأما عن عرفة هذا العام وقلة الحجيج، فاعلم أن ديننا ما احتفى قط بكثرة العدد، بل هي لا تغني شيئا إن افتقدت قوام النصر والتمكين. فالقلوب القلوب، هي مرصد علام الغيوب.وودت لو أهمس في آذان أهل الموقف هذا العام: لقد شُرِّفتم وكُلِّفتم، فأنتم سفراء الأمة، والواحد فيكم هذا العام بألف ويزيد في غيره من الأعوام، فتضرعوا وخصوا الأمة بالدعاء.
يوم العيد توجيهٌ لحركة الزمن!
وعيد من عَمَّر التسعة الأيام جائزة، ولطعم الأجر بعد الجهد مذاق. وإذا ذكر العيد تذكرت وحي قلم الرافعي في "اجتلاء العيد" و "بين خروفين"، إذ يوقفك على رسائل العيد للأمة. وما تكراره إلا تذكير لها وإعادة بعد إعادة. "فليس العيد إلا إبراز الكتلة الاجتماعية للأمة متميزة بطابعها الشعبي، مفصولة من الأجانب، لابسة من عمل أيديها، معلنة بعيدها استقلالين في وجودها وصناعتها، ظاهرة بقوتين في إيمانها وطبيعتها، مبتهجة بفرحين في دورها وأسواقها؛ فكأن العيد يوم يفرح الشعب كله بخصائصه.
وليس العيد إلا تعليم الأمة كيف توجه بقوتها حركة الزمن إلى معنى واحد كلما شاءت.
فقد وضع لها الدين هذه القاعدة لتُخرِّج عليها الأمثلة، فتجعل للوطن عيدًا ماليًّا اقتصاديًّا تبتسم فيه الدراهم بعضها إلى بعض، وتخترع للصناعة عيدها، وتوجد للعلم عيده، وتبتدع للفن مجالَي زينته، وبالجملة تنشئ لنفسها أيامًا تعمل عمل القواد العسكريين في قيادة الشعب، يقوده كل يوم منها إلى معنى من معاني النصر." رسالة العشر أن ديننا طاعة لله، وإصلاح للعباد في الحياة، وسبيل استحقاق ميراث الجنة بعد الممات "تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا" (سورة مريم الآية 63).