من أسباب الهداية حسب سنته سبحانه وتعالى، خشية الله عز وجل والخوف منه، فإن خشيته عز وجل تجعل صاحبها أكثر من غيره استعداداً للتذكر إذا وعظ وذكر، وللاعتبار بما يرى من آيات الله في الكون والحياة وما تجري به سنته في أحداث التاريخ، وللانتفاع بالإنذار بعذاب الله في الدنيا والآخرة، والاهتداء إلى الحق إذا هدى إليه وآيات القرآن الكريم توضح هذه الحقائق أكمل توضيح، حتى أنها لتصور لنا ما يعتري الخائفين من الله إذا سمع آيات الهدى تتلى عليهم: قال تعالى: "اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ" (الزمر : 23 ).
وقال تعالى بعد أن ساق قصة فرعون وما آل إليه أمره من النكال والهلاك قال: "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى" (النازعات : 26) فالذي يعرف ربه ويخشاه هو الذي يدرك ما في حادث فرعون من العبرة لسواه أما الذي لا يخشى ربه فبينه وبين العبرة حاجز، وبينه وبين العظة حجاب. (في ظلال القرآن، 6 / 3816).
ويقول الله عز وجل عن تأثير خشيته في قبول التذكرة "طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّاتَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى" (طه : 1 ـ 2) وقال تعالى:" فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يخَافُ وَعِيدِ" (ق: 45). وقال تعالى:" وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ" (الأنعام: 51). فالذي يخشى يتذكر حين يذكر، ويتقي ربه بأداء فرائضه واجتناب محارمه، خشية عقاب الله ووعيده، وهذه ألوان من الهداية يؤتيه الله سبحانه من يخشاه.
وقد جاء التصريح بترتيب الهداية على خشية الله دون من سواه. قال تعالى:" فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" (البقرة: 150). فالهــدى إنمــا يكــون نتيجـة لخشـية الله وحــده دون مــن سـواه، لأن ذلـك يدفــع مــن يخشـى الله إلــى اتبــاع أوامــره واجتنــاب نواهيــه، دون النظـر إلــى انكـار غيــره ممــن لا يخشاهم مــن البشــر فطريق الهــدى هــو خشية الله وعـدم الخشية ممــن سواه.
الإنابة إلى الله
ومن أسباب الهداية التي جعلها الله سبباً في زيادة الهدى لأصحابها، إنابة العبد إلى الله، إنابة عبودية ومحبة وهي تتضمن أربعة أمور: محبته والخضوع له، والاقبال عليه والإعراض عما سواه. قال تعالى:"هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاء رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ" (غافر: 13). وقال تعالى:" أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَالَهَا مِن فُرُوجٍ *وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ" (ق: 6 ـ 8).
وفي قوله تعالى:" تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ" (ق: 8) دلالة على الإنابة سبب في الاعتبار لكل من تحققت فيه هذه الصفة، وأن هذه الصفة لتؤهلهم لثواب الله في الدنيا والآخرة فكما يثيب الله عز وجل عباده المنيبين إليه بالجنة في الآخرة فإنه سبحانه يثيبهم أيضاً بالهداية في الدنيا حسب سنته في الهداية والإضلال فيهديهم ويوفقهم إلى الرشاد وإصابة الحق، ويخلصهم لعبادته، والعمل بطاعته واجتناب ما حرمه ويوفقهم إلى تصديق ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام وإتباعه فيما جاء به. (السنن الإلهية في الحياة الاجتماعية، 1 / 261).
وفي تقرير ذلك . قال تعالى : " وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ" (الرعد : 27). وقال تعالى: "وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ" (الزمر : 17 ـ 18) . وقال تعالى: "شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ" (الشورى : 13).
وأما جزاء المنيبين في الآخرة فقد قال تعالى: "وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ"(ق : 31 ـ 33). ولذلك فقد أمر الله سبحانه عباده بالإنابة كما في قوله تعالى: " قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ" (الزمر : 53 ـ 54). وكما في قوله تعالى أيضاً: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَاتَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (الروم : 30 ـ 31).
ملاحظة هامة: اعتمد المقال في كثير من مادته على كتاب: "الإيمان بالقدر"، للدكتور علي الصلابي، واستفاد كثيراً من مادته من كتاب: "السنن الإلهية"، للدكتور شريف الخطيب.