مثل الحق مثل الوردة العطرة، والقوة مثلها مثل الشوك الذي يحيط بالوردة فيحميها، ويبعد عنها الأيدي القاطفة، والحق كالمدينة العامرة، والقوة هي السور المنيع الذي يحيط بالمدينة فيحميها ويصون أهلها، الحق كاللوحة الجميلة والحق هو الإطار الذي يحوطها ويحميها.
((إنَّ اللهَ يزَعُ بالسلطانِ ما لا يزَعُ بالقرآنِ)) كلمة قالها عثمان بن عفان، ليبين أثر القوة في حماية الحق، والوَزْع يعني الكفّ والمنع، والمعنى أن " مَن يَكُفُّ عن ارتكاب العَظائِم مَخَافَةَ السُّلطان أكْثرُ مِمَّن يَكُفُّه مَخافَةَ القرآنِ واللَّهِ تعالى " وهذه حقيقة يشهد لها كل ذي عقل، فالقرآن الكريم على ما فيه من وعظ وتذكير، وآيات وعد ووعيد، فإن ذلك وحده لا يكفي لردع البعض ومنعه من الخطيئة، لكن الخوف من السلطان وعقوبته قد يردعانه.

القوة من أجل العدالة وكرامة الإنسان

لا بد في حضارتنا الإسلامية من صنع القوة، وإيجاد مسبباتها وعواملها، لحماية الحق والدفاع عنه، لأن الحق سيضعف إذا لم تكن هناك قوة تحميه، وفي الوقت ذاته هي قوة تحقق العدالة، وتحفظ كرامة الإنسان.

 ولقد تتبعت الفتوحات الإسلامية كلها، بدءاً  بالصين وانتهاءً بالأندلس، فلم أقرأ فيها عن حالة اغتصاب واحدة وقعت، فليس في حضارة الإسلام سجون سرية، ولا تعذيب كما يحدث في الحضارة الغربية، وكلنا شاهد وسمع أخبار سجن " أبي غريب" في العراق، وما حدث  فيه من امتهان غير مسبوق لكرامة الإنسان.
حتى المعارك التي خاضوها باسم المسيح عليه السلام لم تخلُ من ظلم ولا اعتداء، ولم يستطع القادة العسكريون في الحملات الصليبية أن يمنعوا السلوكيات الوحشية غير الأخلاقية بحق المسلمين، وحسبك دليلاً على وحشيتهم أنهم قتلوا من 50 إلى 70 ألف إنسان في يوم واحد، فيما سمّي بفتح القدس.

قوة متزنة وليست إرهاباً

مع أن الإسلام دين قوة وليس دين ضعف، إلا أن الحضارة الإسلامية هي الحضارة الوحيدة التي فتحت الفتوح ولم ترتكب الفظائع، ولقد مرت بالمسلمين حالات ضعف دفعتهم إلى الحكمة والتعقّل والتأنّي، لكن في حالات الغلبة والكثرة، استعمل المسلمون القوة أيضاً بحكمة، ولم يستعملوا الإرهاب الذي هو باختصار ترويع الآمنين أو الاعتداء على الآخرين وممتلكاتهم، مسلمين كانوا أو غير مسلمين، فهو عنف غير مبرر وغير مشروع، ومخالف لكل المقاييس الأخلاقية والقانونية، وهو عنف يتخطى الحدود السياسية والجغرافية للدول.

والإرهاب بهذا المعنى ليس خطراً على الدولة فقط، ولا على الحكام فقط، بل خطره أكبر على الإسلام، لأن الإسلام اختُطف من قبل فئات من المسلمين، شوّهوا صورته باسم الجهاد، وأفرطوا باستخدام القوة بحجة حماية الإسلام والمسلمين، فكان الإسلام هو الخاسر الأكبر.

قوة من أجل العزّة

دين الإسلام دين القوة من أجل العزة، فليست قوته من أجل ترويع الناس وسفك دمائهم والاستيلاء على مقدراتهم، بل قوة من أجل تحقيق العزة والكرامة للأمة المسلمة، وقد حاول البعض أن يُظهر الإسلام بصورة تشي بالضعف والخور.
نعم هو دين سلام في الأوضاع الطبيعية، دين سلم ومحبة في الأحوال العادية، لكن عندما  يُعتدى علينا فنحن الأسود التي لا تهاب، ونحن الموت الزؤام القادم لقبض أرواح المعتدين، لأن ديننا دين عزة يرفض المذلة، وليس فيه كما عند الآخرين، أحبوا أعداءكم، وباركوا لاعنيكم، من ضربك على الخد الأيمن فأدر له خدك الأيسر، من سرق قميصك فأعطه إزارك، بل في ديننا ((مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ)) الترمذي

القوة مع العدل

الإسلام وَسَطٌ في تطويع القوة، حيث طالب المسلمين بالعدل مع أعدائهم، فقال الله تعالى: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة/8)
والمعنى أي لا يحملنّكم بغض قوم على أن تتجاوزا الحق إلى الباطل، والعدل إلى الظلم، يؤيده قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ)) أبو داود
وتجلّت واقعية الإسلام حين شرع مقابلة السيئة بمثلها دون زيادة، فقال تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) [النحل/126] 
والمعنى إن أردتم أيها المؤمنون أن تعاقبوا من ظلمكم واعتدى عليكم وأساء لكم، فعاقبوه بمثل الذي نالكم به من العقوبة دون زيادة.

من روائع الشهيد سيّد قطب

للأستاذ الشهيد سيد قطب كلمات رائعات في القوة والعدل فيقول رحمه الله" .. إذا وقع الاعتداء على أهل الدعوة فإن الموقف يتغير، فالاعتداء عمل مادي يُدفع بمثله إعزازاً لكرامة الحق، ودفعاً لغلبة الباطل، على ألا يتجاوز الرد على الاعتداء حدوده إلى التمثيل والتفظيع، فالإسلام دين العدل والاعتدال، ودين السلم والمسالمة، إنما يدفع عن نفسه وأهله البغي ولا يبغي ... فالدفع عن الدعوة في حدود القصد والعدل يحفظ لها كرامتها وعزتها، فلا تهون في نفوس الناس، والدعوة المهينة لا يعتنقها أحد، ولا يثق أنها دعوة الله تعالى، فالله تعالى لا يترك دعوته مهينة لا تدفع عن نفسها، والمؤمنون بالله لا يقبلون الضيم وهم دعاة لله والعزة لله جميعاً .."