في الآونة الأخيرة، أو مُذ فُقِد الأمل بتحقيق المبتَغى في وقت قريب -إذا جاز التعبير- انْهَالَتْ كثيرٌ من الاتهامات والانتقادات على أهل الشّام والباقين فيها؛ فإذا ما رَصَد الإعلامُ، وبين قوسين كبيرين أقول: (الإعلام الحُرّ والنّزيه!)؛ بعضَ الظّواهر المُشِينة، أو المَثَالِب القبيحة، صادرةً عن أهالي الشّام، أو مَنْ هم في حُكْمِهم، أو مَن أُلْصِق بهم، وَجَد المَرتع الخصْبَ لتعميم الآفات المجتمعية وإلْصَاقها بالشّام وأهلها، مُتذرّعًا بأنّ ذلك من نتائج الرّكون والقبول بمَا يمسّ كرامة الإنسان وحريّته، مطلقًا العنان لخياله، ومعمِّمًا ذلك وموجزًا إياه بلفظ "الدمشقيّون"!
أإذا ما قام ثُلّةٌ من أهلها أو ممن يدّعون أنهم أهلُها بما يُسيءُ، أطلق المُنْتَقِدون؛ الجَاهلون منهم، والتَّافهون، ومُثِيْرُو الفِتَن؛ أحكامَهم الأخلاقية وعَمّموها على أهلها أجمعين!
وفي عجبٍ شديد أسأل: متى كانت دمشق مرتعًا للسَّفلة؟! ومنذ متى صارت دمشق عرّة الفتن والبدع؟! ومتى غَدَت مأوى لأهل الرذيلة والفاحشة، وموئلًا للفُجر والعهر؟!
ولماذا كلّما حاول أهلُها انْتِشَال أنفسِهم من دَرَن الألم تلقّفَ العابثون أفعالَهم، ورَمَوْهَا بحجارةٍ من غيظ وفتنة وإفشاء لكلِّ مُذِلٍّ مهين، وكأنها حينما غُمِز جانبُها هاشت عليها ذئاب الجَهل بسُفهها ووضاعة أَصْلها، أولئك الذين باعوها بعَرَضٍ من دنيا، لن يُسمِنهم ولن يملأ عيونهم المُشْرعة نحو الفضاء الآثم إلا التّراب الأسود.
أكلّما نبحَ كلبُ القومِ قُلنا لهم زادَ الكرامُ كِراما! وإذا ما هَمدتْ نارُهم قُلْنا كانوا لِئَاما؟! دمشقُ وإنْ تَكَالَبَتْ عليها السّنُون، وإن رَمَاهَا البَشَرُ والحَجَرُ بأبشع التُهم، وأقذر المثالب؛ ستبقى شَامَة الدّنيا، وإليها، وإلى كلّ ذرة من ترابها، وإلى لمْحَةِ طيف يأتينا من قِبلها، نَحِنُّ ونَرْنُو بجوارحنا وآلامنا وآمالنا.
في دمشق، وبعد سنين من تعبٍ ونَصَبٍ ولأْيٍ، تَتَلَمَّسُ وجدانك القَاحلَ، تَرَاهُ في الوجوه العابرة من حولك، تبدو الوجوه مُتعَبة كَالِحَة مُكْفَهِرّة، وكثير منها كان غريبًا... مُقِيمون... وافِدون... مُهَجّرون... نازحون... هل كان ينبغي أن يحدث كلّ ذلك حتى نتجاوز التفكيرَ التّفَاضُلي بالعِرق، بالدّم، بالعادات، وبالمكان؟! من اختار جنسيته، ومدينته، وحَيّه!
حين غادرتُ دمشقَ عَاينتُ معنى المَنَاطِقيّة المَقِيت، وشعرتُ بكمٍّ هائلٍ من الامتنان لعائلتي، ومُحيطي، على إغفالهم لهذه الأفكار، فما معنى أن تكون دِمَشقيًا، أو حَلَبيًا، أو حِمْصيًا، أو ديريًا، أو... وما معنى أن تكون دمشقيًا من داخل السّور أو خارجه؟!
معنى ذلك أن تلتصق بك بعضُ التَّعميمات الجاهزة، والقَوالب المُسْبَقة الصُّنع، وبعض الصّفات الخاصّة شكلًا ومضمونًا! والمؤلم حقيقة أنّ ذلك يعني أن تلتصق بك بعضُ التُّهم التي أُعِدّت لترسيخ الشّتات والتَّشَرذُمِ والتَّفَسّخ، وإذْكاء رائحته النّتِنَة فيما بيننا، ونحن في أشد الأوقات حاجةً إلى أن نكون كُلًّا واحدًا... بقلبٍ كبيرٍ وعقلٍ أكبر، بحُبٍّ عظيم وإدراك أعمق، بضميرٍ حَيٍّ ووجدانٍ أوسع.
أَمِيْتُوا الفتنةَ فيما بينَكم يرحمكم الله، أَمِيتوا الأفكارَ المسبقة، والأحكامَ المُعَمَّمة، أميتوا المناطقيّةَ والتفاضليّةَ التي لم يأتِ بها عُرْفٌ إنسانيٌّ ولا دين، أَمِيتُوها لنَحْيَا...
دمشق، المَنْشَأ والمُقام والهوى، ولأنني بقيتُ في دمشق في سِنِيّها العِجاف أقول عن علم ودراية: والله إنّ في الشام أُناسًا أزعم على الله أنهم من أهل الرّباط، دمشق باقية ببقائهم، وصامدة بصمودهم، وجميلة بجمال أرواحهم وقلوبهم...
وكم من قائل: "أنتم الدّمشقيون أحفاد معاوية!" ولك أن تسبر أغوار هذه المقولة كما تشاء، فَبِقليل دراية ستدرك كم تخترل هذه الكلمات من معانٍ ضاربة في عمق التاريخ، وستستنبط منها مرجعيّاتها الدفينة؛ السّياسيّة منها والطائفيّة، وستتنبه إلى ما فيها من تصنيفات عَقَديّة ومناطقية، وستصل بك الحال إلى أن تنفث أسفًا، وتقول: أسفي على تاريخٍ لا يُقرأ، وإذا قُرِئ لا يُفهَم، وإذا فُهِمَ فُسِّر وفقًا لما تهواه النّفوس الضّئيلة حِسًّا ووَعْيًا وإدراكًا.
متى تَعِي البشريّةُ أن الحقّ المطلق لا يدّعيه صاحبه، ولا يبحث عن دلائل لإثبات أحقيته فيه، بل يتلبّسه، وينصهر في جوهره، وتشدّه جذوره إليها، شاء مَن شاء وأبى مَن أبى!
مذ غادرتُ دمشق وبيني وبينها في بُعد المسافة غصّةٌ بحروف مخنوقة، وكأني حين غادرتُها تركتُ فيها روحَ أمي وعيني أبي المعلّقتين بأذيال الغياب الموجِع، تركتُ فيها طريق حُلُمٍ عُرِّيَ مراتٍ كثيرةً قبل أن يلوح، وفي رحلتي نحو الشمال السوري اغْتِيلت دمشقُ أمام جَزَعِي المهيض الجناح... وما زلتُ في غمرة الهذيان أسأل: هل سأُشفَى ممّا رأيتُ وسمعتُ؟ لعلَّ الحرفَ حين يَصْبُو يمضي ويشفي، ولعلّه...
كثيرٌ من كلام الحنين وأنا في دمشق كان يبدو لي ممجوجًا، لكنّ الحنين إذا ما استعر في الفؤاد –حقيقةً- أَلْهبَ الحشَا، وغضَّ الطّرفَ عن بهجة الدُّنيا وما فيها، ألا ما أصدق زهير بن أبي سلمى حين قال:
ثَلاثٌ يَعزُ الصَّبرُ عندَ حُلولِها ويَذْهلُ عَنها عَقلُ كلّ لَبِيب
خُروجُ اضْطِرارٍ من بِلادٍ يُحبُّها وفرْقَة إخوان وفَقْدُ حَبِيـب
فكيف إذا ما اجتمعت الثلاث معًا! دمشق، في هَدْأَةٍ من العمر الهارب، يا أحبَّ بقاع الأرض إلى قلبي! وإنْ مَادَتْ وإنْ بَادَتْ، وإن شَطّ عَنهَا النَّوَى المَزَار، دمشق هي المآل الأبهى والأغلى والأبقى، ولها تهدر الروح بين الجَنَبات عشقًا وحبورًا.