يمكن إلقاء الضوء على طبيعة العملية الإدارية وتطوير السياسات باعتماد مقاربات عديدة، ومن أهم هذه المقاربات، المقاربة البنيوية التي تبحث في البنية الاجتماعية والسياسية، والمقاربة الإجرائية التي تبحث في آليات تطوير السياسات وصنع القرارات، وأخيرا المقاربة التحليلية التي تسعى إلى ربط القوى السياسية بنتائج العملية السياسية.

المقاربات متكاملة ولا يمكن رؤية أي منها بعيدا عن الآخر، ولكن البعد المحوري هو البعد القيمي، نظرة إلى تأثير هذا البعد في شكل المؤسسات السياسية وطبيعة الآليات الإجرائية المتبعة وطريقة فهم العملية السياسية وتحليلها.

منذ انهيار الدولة العثمانية في مطلع القرن الماضي والحوار قائم حول طبيعة النظام السياسي وشكله الذي يتوافق مع المجتمعات العربية والإسلامية التي نشأت على أنقاضها في الشام والعراق ومصر والجزيرة العربية والدول المغاربية. ولعل المواجهة التي جرت في مصر عقب صدور كتاب الإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرازق بين أنصار الخلافة الإسلامية التاريخية ودعاة التجديد في فهم علاقة الإسلام بالحكم السياسي أعلنت بداية حوارطویل استمر إلى يومنا هذا. 

الجدل يدور بین محورين يصر أولهما على الاحتكام إلى المرجعية الإسلامية التاريخية ويرفض الجهود الغربية لإعادة ترتيب البيت الداخلي وفق النموذج الحديث للدولة ذي الجذور الغربية، بينما يشدد الآخر على ضرورة اعتماد التطورات السياسية الحديثة والاستفادة من المؤسسات التي طورتها الحضارة الغربية.

المقاربة المنهجية التي نتبعها مقاربة قيمية تسعى إلى ربط العملية السياسية بالقيم المرجعية للمجتمع، انطلاقا من القيم المعيارية المؤسسة للمجتمعات العربية والإسلامية. 

اعتماد المقاربة القيمية وتقديمها على المقاربتين البنيوية والإجرائية، لا تعني تجاهل المقاربتين المذكورتين، بل إعطاء أولوية للقيمي على البنيوي والإجرائي، ذلك أن البنيوي والإجرائي يسعيان إلى تحقيق جملة من القيم المؤسسة؛ إذ تسعى البني السياسية إلى نقل المعياري من صيغته الكلية - على اعتبار أن القيم المعيارية تتجاوز حدود الزمان والمكان - وتحويله إلى فعل تاریخي بربط القيم بالأعراف والتقاليد الاجتماعية السائدة، ذلك أن القيمي هو المبدأ التأسيسي الوحيد الذي يمكن نقله عبر حدود الزمان والمكان، نظرة إلى صفته الكلية وعدم التصاقه الكامل بالبني الثقافية التاريخية المحددة، الحفاظ على التراث المعياري يتطلب تجاوز تجلياته التاريخية وعدم التمسك بها عندما تتناقض مع التغيرات الاجتماعية والاحتياجات السياسية.

وعلى الرغم من تقديمنا للقيمي والمعياري في جهدنا لتحديد معالم الحوكمة الرشيدة، فإننا نوظف المقاربات الثلاث المذكورة لربط القيم بالبني السياسية والإدارية. 

فالمقاربة القيمية تساعدنا في تحديد المقاصد التي حكمت الممارسات السياسية، والمقاربة البنيوية تبحث في البنية الاجتماعية والسياسية، والمقاربة الإجرائية تبحث في آليات تطوير السياسات وصنع القرارات. وبالتالي لا يمكن أن تكتمل الصورة إلا باعتماد المقاربات الثلاث في عمليات التحليل والتركيب .

ويجدر بنا ونحن نتحدث على أولوية القيمي على البنيوي، تأكيد أن هذه الأولوية تتعلق بأسبقية المقصد على الفعل المجد له والذي يأخذ عادة شكلا مؤسسية، ولكنها لا تعني بأي حال أن البنيوي أقل أهمية من القيمي. فالمؤسسات التي طورها المسلمون الأوائل لتنظيم المجتمع السياسي استبطنت جملة من القيم والمبادئ المعيارية، ولكنها تفاعلت في جهودها إلى تطبيق المعيارية مع البنية الاجتماعية للمجتمعات التي حكمتها وسعت إلى تنظيمها. 

فمبدأ الشورى الذي استبطن قيمة المشاركة العامة في المسؤولية الاجتماعية تحول إلى ممارسات سياسية تاريخية تمثلت في مؤسسة أهل العقد والحل ومؤسسة الإمامة أو الخلافة التي شرحها فقهاء الأحكام السلطانية في كتاباتهم، فتبنت المدرسة الأشعرية التي سادت في العصر العباسي رؤية سياسية سمحت باختصار مبدأ الشورى ومؤسستي أهل الحل والعقد والخلافة في البيت الحاكم، وأعطت شرعية لأمراء الحرب والسلاطين طالما اعترفوا بمقام الخليفة ومرجعية الشريعة. وكما سنرى في فصل لاحق فإن الشورى التي هي حق للأمة تم حصرها في مداولات تجري داخل أروقة الأسرة الحاكمة وأصحاب النفوذ المحيطين بها .

إن الشورى التي هي حق للأمة تم حصرها في مداولات تجري داخل أروقة الأسرة الحاكمة وأصحاب النفوذ المحيطين بها من خلال الاحتجاج بصعوبة عقد مجالس الشورى تستوعب أفراد الأمة جميعا، نظرة إلى امتداد الكيان الإسلامي التاريخي عبر قارات ثلاث.

ومن هنا يلزمنا أن نستحضر في تحليلنا للعلاقة بين القيمي والبنيوي والوظيفي تداخل هذه الأبعاد وتكاملها في الحياة الاجتماعية والسياسية على مستوى الفعل والعلاقات العملية، فالقيم توجه الأفعال الاجتماعية والسياسية، ولكنها لا تتحقق في الواقع الإنساني ما لم تأخذ شكلا بنيوية وإجرائية محددة. فالعدل على سبيل المثال قيمة كلية أساسية في المجتمعات الإنسانية على اختلاف مرجعياتها المعيارية، ولكن لا يمكن تحقيقها بتأكيدها على مستوى الخطاب، بل تحتاج إلى أن تتجلى في مؤسسات اجتماعية تحدد العلاقات بين الأفراد بطريقة تسمح بتحقيق العدل (العدالة الاجتماعية)، كما أنها يجب أن تتجلی عبر خطوات إجرائية يسمح تطبيقها بتحقيق العدل في المجتمع العدالة الإجرائية).

إذن، تكمن أهمية مقاربة الحوكمة لدراسات السياسات العامة في تركيزها على المنظومة المعمارية والبنى السياسية والاجتماعية اللازمة لترجمتها إلى ممارسات وعلاقات، وفاعلية السياسات المعتمدة والمؤسسات المكلفة بتطوير السياسات العامة تتحدد في دائرة تطبيقاتها العملية. 

ومن هنا فإن الحوكمة لا تساعدنا فقط في تحليل العلاقة بين السياسي والديني والحكم عليها انطلاقا من المنظومة المعيارية المعتمدة، ولكنها تمكننا أيضا من تقييم قدرة المؤسسات السياسية والاقتصادية على تحقيق توازن بين الحرية الاقتصادية الضرورية لتنشيط التنمية الاقتصادية وبين العدالة الاجتماعية اللازمة لمنع الاستغلال وتحقيق حياة كريمة للطبقات المحرومة.

يمكننا في هذا السياق تمييز أربع مقاربات لتحديد طبيعة التجاذبات بین قيمة الحرية الاقتصادية وقيمة العدالة الاجتماعية المتنافستين في المجتمعات التبادلية والإنتاجية الحديثة .

  • الحوكمة والهيكلية الإدارية: وتركز هذه المقاربة على الهيكلية الديوانية والبنية المؤسسية وتأثيرها في تطوير السياسات العامة.
  • الحوكمة وآليات السوق: نسعى هذه المقاربة إلى توظيف العلاقات التبادلية داخل السوق وتنظر في آليات توزيع الإنتاج والثروات وأثرها في البناء على التنافس والإنتاجية.
  • الحوكمة وتقاطع المصالح: ثمة تداخل للمصالح بين صانعي السياسات والمستفيدين منها تجدر دراستها وبحثها للتأكد من أن هذا التداخل لا يقدم المصلحة الخاصة للقوى الفاعلة في السوق على المصلحة العامة. ولعلنا نجد مفهوم المثلث الحديدي الذي طورته دراسات الاقتصاد السياسي منذ منتصف القرن الماضي مثالا لهذا النوع من المقاربات. 

وكان أول من أشار إلى العلاقات البينية الضارة بالمصلحة العامة وفق المثلث الحديدي الرئيس الأمريكي أيزنهاور عندما حذر من تقاطع مصالح موظفي الجهاز التنفيذي مع مصالح ضباط الجيش وشركات إنتاج الأسلحة في الولايات المتحدة الأمريكية. هذا النوع من العلاقة، إن وجد بصورة خفية في النظام الأمريكي، فإنه بالتأكيد أكثر انتشارا في الدول التي يستشري فيها الفساد السياسي والإداري والمالي، وتغيب عنها آليات المساءلة السياسية.

  • الحوكمة والعلاقات المجتمعية: تركز هذه المقاربة على العلاقة بين الفعل السياسي للنخبة السياسية وقدرة الجماعات المحلية على المشاركة في صنع السياسات التي تؤثر في حياتها اليومية، والقدرة على تقييم هذه السياسات والعمل على تغييرها لتحقيق مصالح الأفراد المتأثرين بها.

أخيرا، فإن الطبيعة المعيارية لمقاربات الحوكمة لفهم آليات تطوير السياسات العامة وتنفيذها تجعلها مفيدة في دراسة سلوك المؤسسات المجتمعية على اختلاف اهتماماتها ومناطق تأثيرها ونفوذها؛ لذلك يمكن الحديث عن حوكمة على مستوى الجغرافية السياسية الدولة القومية أو القطرية)، أو على مستوى المنظمات التجارية (شركة أو مصنع)، أو حكومة على مستوى الاجتماع السياسي القبيلة، العائلة، وغيرها).