تدقيق: أ. عبد السلام لحرش

استضاف عمران الحضارة في برنامج ساعة فكر الدكتورة فلة لحمر في جلسة تناولت موضوع المُمارسات التربوية التي تُحقق التغيير الحضاري المنشود وذلك بتاريخ 10 دجنبر 2020، وقد أدار الحوار، الذي بُث على الصفحة الرسمية لعمران على الفايسبوك، الأستاذ شمس الدين حميود؛ تطالعون فيما يلي نص المداخلة.

- شمس الدين حميود: اليوم نحن مع موضوع مُهم وضيف أهم، أما الموضوع فسنكتشفه خلال جلستنا الحوارية هذه، أما الضيف فهي الدكتورة الجزائرية فُلة لحمر الحاصلة على ماجستير في مناهج البحث التربوي، ودكتوراه في التربية من جامعة نوتنغهام وكذلك المُحاضرة والمُشرفة على برنامجي الماجستير للتعليم الإسلامي والدراسات الإسلامية بمعهد ماركر للتعليم العالي. الدكتورة زميلة أيضاً بمعهد التعليم العالي ببريطانيا، وعضو في الجمعية البريطانية للبحوث التربوية في الجمعية البريطانية، أيضاً هي باحثة أكاديمية في المجال التربوي المُتعلق بتعقيدات العملية التربوية ضمن سياقاتها الدينية والاجتماعية والسياسية، وأيضاً هي باحثة في مجال الفكر الإسلامي وقضايا الأقلية المُسْلمة في الغرب. الدكتورة فلة لحمر، سُعداء جداً باستضافتكم في هذه الجلسة الطيبة إن شاء الله، أهلاً وسهلاً بكم.

- الدكتورة فلة لحمر: أهلاً وسهلاً بكم وشكراً لكم على الدعوة وأُحييكم وأُحيي مُتابعينا الكرام وجزاكم الله خيراً.

- شمس الدين حميود: دكتورة قبل أن نعرج في موضوعنا اليوم، جرت العادة أن نسأل الضيوف الأعزاء عن جديد المشاريع الأكاديمية الخاصة بهم، وأيضاً هل من مؤلفات قيد الصدور أو أبحاث تعملون عليها في الوقت الراهن إن شاء الله.

- الدكتورة فلة لحمر: نعم بارك الله فيكم، صدر لي حديثاً منذ شهرين ورقة عن التعليم الإسلامي في الوسط الغربي عن طريق البيئة التعليمية التي توفر الحكمة، وكتاب أكاديمي قادم إن شاء الله حول القيادة التعليمية في التعليم العالي، والخاصة بالقيادة في المؤسسات الإسلامية، ثم هناك كتاب أعمل عليه هو خاص بالمدارس الإسلامية وتطورها في الوسط الغربي، وهذه الدراسة جزء منها مبني على بحثي للدكتوراه، ثم توسعت فيه فسيضم التعليم الإسلامي في بعض الدول الأوروبية إن شاء الله.

- شمس الدين حميود: نعم، سعداء جداً بتصفح هذا النتاج الجميل، في الحقيقة قضايا التربية والتعليم هي في جوهرها قضايا أمة، وعلى الأمة جميعها أن تحاول النهوض بمؤسساتها، وتشخيص مشكلاتها، ثم حلها بعد ذلك، مع ما يفرضه هذا من وجوب متابعة المعارف المتعلقة بذلك، وسؤال وتمكين أهل الاختصاص والدراية وعلى ما تشهده الأمة من تطوير في المناهج والوسائل التعليمية، ربما الممارسة التربوية محل إشكال، ويبقى تجويدها من أسمى الغايات لتعميق أثرها والخروج من المأزق الحضاري الذي تشهده معظم دول العالم الإسلامي في إدارة المجتمعات، عنوان حلقة اليوم يُدلل حول هذا المعنى فيتساءل عن الممارسات التربوية التي تُحقق التغيير الحضاري المنشود.

في بداية الجلسة نُحيل الكلمة للدكتورة فُلة لحمر لتُقدم مدخلاً حول هذا الموضوع، ثم بعد ذلك لنا عودة للنقاش، وأسئلة منا وأيضاً من الجمهور الكريم.

التحرير يأتي أولا من الداخل.. كيف يقتل الاغتراب والتبعية والخوف روح الأمة؟

- الدكتورة فلة لحمر: حين نتحدث عن التربية فإننا نتحدث عن عدة دوائر، دائرة النفس، ودائرة الأسرة الصغيرة، والأسرة الواسعة والممتدة كما أننا نتحدث عن دائرة المجتمع ودائرة المدرسة والمؤسسات التعليمية المُختلفة، ومؤسسات المُجتمع المدني وعن النظام السياسي فكلها غير مفصولة وكلها تصب في العملية التربوية، لذلك حين نتحدث عن المنظومة التربوية حول الانطلاق الحضاري، علينا أولاً أن نُدرك ما هي الأسباب التي أوصلتنا إلى هذا الانحطاط والجمود الذي وصلت إليه الأمة، وبالتالي الدارسون لفكر الأستاذ الكبير مالك بن نبي رحمه الله أو ابن خلدون أو كثيرين غيرهما نجد أن هناك أسباب من داخل الذات نفسها وأسباب تابعة جاءت بعد ذلك.

أنا لن أتحدث في عمق الأسباب، ولكني سأتحدث عن هذا الإنسان المغلوب والمظلوم والمقهور الذي يشعر باللاجدوى من التغيير، لو تكلمنا عن النظام التعليمي لأجل الحرية ولأجل الكرامة فلِأن الانطلاق يكون بتحرير النفس، وجَعْلها مُدركة لقدراتها، وآفاقها وإمكانياتها، ومؤمنة بإمكانية التغيير؛ فهذا مهم جداً ونراه في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم.

 قضية الإنسان المُحرر، نحن ننظر إليها من منظور صلاح الدين الأيوبي الذي سيأتي، والحقيقة أن قضية التحرير لا ننتظر حتى تأتي، وإنما هي تحرير من الداخل وهي شئ نسعى إليه كأفراد وكمجتمع، وهو لا يأتي بمجرد سعي إنسان، وليس هو هدية، ولكنه يأتي من الفرد يعمل على ذاته، وكذلك من المجتمع العام، فإذاً كما وضعنا التربية في دوائرها المُختلفة، فقضية التحرر وقضية الكرامة كذلك تأتي في دوائر، إذاً فالذي حدث أن العملية التربوية سواء في داخل الأسرة أو المجتمع متكاملة. لذلك نجد مسألة السُلطة المُهيمنة تتجلى في عدة مظاهر، فمثلاً مسألة قمع الأستاذ للطالب في المدرسة، وكذلك في البيت نجد ثقافة الهيمنة، لذلك تحدث مالك بن نبي عن الثقافة وموضوع الثقافة. أنا أطرحه بقوة، فقبل الانتقال إلى أي نقطة أخرى، أنا أتحدث عن الوسط الثقافي وعن البيئة التعليمية في الأسرة أو في المُجتمع. فما هي الأهداف التربوية المنتشرة؟ كما سماها مالك بن نبي البلازما مثل بلازما الدم، وما هي الأهداف التربوية المنتشرة في هذه البلازما الثقافية للمجتمع التي نتعلم منها غير المنطوق؟ نحن نقول شيئاً، لكننا نفعل شيئاً آخر، ونُدرك شيئاً آخر، فقد نقول شيئاً في المدرسة، ولكن الأستاذ يعمل بغيره، لذلك يكون علينا فهم هذا الوسط التربوي، أو البيئة التربوية. فإذا كانت لدينا ثقافة الهيمنة ستجعل الظلم طبيعيا، وكذلك تجسيد التهميش للفئات المقهورة في المجتمع؛ فهل تساءلنا مثلاً في أي وقت حول أن مسألة العدالة الاجتماعية يجب أن تكون حقيقية. ففي فترة الوباء مثلاً لم يدرس الطُلاب، ولم يتلقوا معاونة ثم يتقبل المُجتمع النتائج، وتُقبل على أنها طبيعية، ولكنها غير طبيعية، فهناك فئات كثيرة جداً تضررت لأنها لا تستطيع أن تدفع للدروس الخصوصية، وليس عندها حاسوب في البيت، ولا إنترنت فإذا لم نتساءل عن هذه الأشياء، سيصبح الظلم طبيعيا، وهذه النقطة جزء من قضية التجريد من الإنسانية التي ذكرتها لكل المربين. الآن حين أتعامل باعتباري أبا أو أما أو مُدرسا في المدرسة كيف أتعامل مع هذا المُتعلم الذي أمامي؟ هل أتعامل معه على أنه إنسان بكل دوائر الإنسان، أم أتعامل معه كشيء من الأشياء؟

 وقضية التجريد من الإنسانية خاصة في الدول التي تعرضت للاستعمار، تكون قد طبعتها وأصبح الأمر عادياً أن نتعامل بشيئية مع الإنسان، ولا نفكر بإنسانيته بكل أطرافها. وطريقة القهر والغلبة المُستعملة من قِبل المُستعمِر كان لها أثرا في ذلك.

 كما أننا نجد في المناهج أشياء مبثوثة تجعل التاريخ يُقدم فيها إما بطريقة مثالية، بحيث يصطدم المُتعلم في فترة ما، ويفهم أن التاريخ الحقيقي ليس هو التاريخ الذي درسته، وبالتالي قد ينفر تماماً من هذا المثال، أو بطريقة دونية، وأن دائماً ثقافتي هي ثقافة التخلف، ويجب أن أتخلى عنها كليا وأنطلق!!

المشكلة هي أنه حينما نتبنى في المناهج والمنظومة التعليمية قضية كيف ننسق الأقسام وكيف ندرب الأساتذة؟ والمعايير في التقييم؟ وكل هذه الأمور يجب أن نتساءل من أين أخذناها، هل هناك بدائل؟ وهل يمكن أن نقدم شيئا؟ بحيث يكون له تأصيلاته في تاريخنا وفي تراثنا وقيمنا؟

 إذاً، هذه هي قضية الاغتراب، فهي الأخذ من الآخر بقدر ما نُصبح غُرباء أكثر عن تاريخنا، وعن واقعنا، وعن عملنا، وغرباء عن مستقبلنا، في العملية التربوية أصبح الذين يعملون على المناهج أو الأساتذة بالنسبة للبيداغوجيا نتعلم من تراثنا بحيث نطور منه بيداغوجيا موافقة لهذا التراث، ولهذه الثقافة، ونحرر الإنسان من التبعية، لِأن التبعية بعد ذلك تؤدي بنا إلى الاعتماد العاطفي، والخوف من الحرية، كأن يخاف الطالب من أن يناقش أستاذه في مسألة، فيُنقص درجة، ويخاف الولد من أن يناقش أمه في موضع، فتغضب عليه، والمرؤوس يخاف من رئيسه.

 الخوف وعدم الشعور بالأمان المبثوث في الدوائر المختلفة، نحن تَعَوَّدنا على أن التلميذ المؤدب والابنة المؤدبة هي التي لا تُناقش، فقط سمعاً وطاعة يا مولاي التي ورثناها، كما هي ليس مع الإبداع. فأنا حينما أُربي مُبدعاً أتوقع أن أول شئ يفعله هو أن ينتقدني أنا، لأنه يبدأ بممارسة المهارات التي تعلمناها، وبالتالي يجب أن أفتح له مساحة الأمان، ومساحة الحرية، وهذه لا تكون إلا عندما نستشعر كمربين، وكثقافة نزرع فيها قضية الحرية. إنه ليست شيئاً نستجلبه من الخارج، إنها تبدأ بالحرية الروحية من دواخلنا ،وعلينا نحن المربين أن نطرح هذه الحرية في المساحات التربوية طرحاً حقيقياً، وليس طرحاً تجميلياً. ولكن الكرم الزائف، والحرية الزائفة والمساحة الزائفة، كأن أقول لك عندك الحرية، ولكنك تَعَلَّم حدودك، ليس عندك الحق أن تناقشني، أو تخالفني. فكيف نصل إلى الحرية، بحيث يشعر الإنسان بالإنسانية، مثل الصحابة رضي الله عنهم حينما شعروا حقاً أن لهم طاقة داخلية، استثمروا هذه الطاقة بعد ذلك في الإبداع.

كذلك قضية الحرية في العلاقات الاجتماعية، فعلاقة المتعلمين مع بعضهم، وعلاقة الأقوى بالأضعف، وعلاقة المُربي بالمتربي في العلاقة التربوية. أنا دائماً أعتبر نفسي متعلمة، فالمُعلم يتعلم مع كل طالب يتكلم معه، ويتناقش معه. علاقاتنا الاجتماعية علينا أن نتأمل مدى الحرية المبثوثة فيها. كذلك قضية التربية على العنف، والتسلط والقمع يُوَلِّد فسادا في السلوك، وفسادا في النفس، من حيث أن المتعلم يفقد السعادة، فهذا الأمر يؤثر على سعادته، وعلى رغبته في التعلم، وبالنسبة لنا نحن التربويين نعلم أن جزءا كبيرا من النجاح والتحصيل العلمي، عملياً مرتبط بقضية الحماس نحو التعلم، فإذا قتلنا في المتعلم الحماس بالعنف والتسلط، فَقَدَ الرغبة في التعلم، قضية العنف والتسلط بدافع التأديب، وتنفيذ الأوامر مثلما تحب، يكون هذا المُتعلم لا يُريد أن يُغضبك، لكنه سيتعلم الكذب والاحتيال بطرق مختلفة، بحيث يحصل على ما يُريد من دون أن يتحدى السلطة القمعية التي يتعامل معها. 

فقضية التخويف في العملية التربوية يؤدي إلى الانقياد في الأمة عموماً، وعندما نقتل روح الأمة بقتل الرغبة والسعادة في الفرد، نكون قتلناها في المجتمع، وبهذا لن ننطلق الانطلاق الحضاري الذي نتحدث عنه. 

إذاً الانقياد على المستوى الأسري، يؤدي إلى الانقياد على مستوى المجتمع، كما أنه سيؤدي كذلك إلى قضية القدرية أو القدر المحتوم، ماذا سأفعل حين أخرج من المدرسة؟ وماذا بعد الجامعة، لن أحصل على وظيفة، ولن أحصل على راتب. فهذه القضية تُصبح سمة شخصية في المجتمع، ونحن تكلمنا عن قضية الأفكار وكيف تؤدي إلى التبعية.

التفكير النقدي ودوره في العملية التربوية 

إذاً كيف أُحَوِّل هذا النظري إلى عملي؟ وهذا الفكر النقدي الإبداعي يتم توليده بعلاقة الطالب والمُعلم، والمُربي والمُتربي عموماً.

إن الإنسان إذا لم يُنتج شيئا أصيلا بالنسبة له سواء على المستوى الفردي أو المستوى المجتمعي، فإنه سيقتل إبداعه، وبالتالي لن يحصل على شئ آخر. فقضية القدرية والعنف الموجود في المجتمع، وقضية الشيئية في التعامل مع الإنسان، بحيث أن المُعلم لا يرى هذا التلميذ إنسانا له آفاقا مستقبلية، وأن له ذاكرة وشعورا، هو يراه طفلا له سلطة عليه، وبالتالي في هذه اللحظة يُريد أن يُسيطر عليه، كما يرغب هو.. هذا السلوك يُزعجني، فَعَلَيَّ أن أَحُدَّ منه بطريقة ما، لكن تأثيرات هذا التعامل مع التلميذ، وتداعيتها عليه كفرد، وعلى المجتمع في المستقبل، لا نفكر فيها كثيراً. فدعوتي الآن هي أن يتم التركيز على التفكير النقدي لدى الأستاذ، ليتفكر أكثر في سلوكيات التلاميذ، وسلوكياته تُجاههم وتأثيراتها وكيفية تطويرها.

نحن التربويين أحياناً نستشعر أنه قد مَنَّنا على التلاميذ، وأعطيناهم فسحة من التعبير، وبيننا وبينهم نعلم أنها فسحة مشروطة، أنني لو تعديت حدودي وقلت للأستاذ أختلف معك على كذا وكذا وكذا، قد يؤثر هذا على علامتي، وقد تبقى في نفسه، ويُعاقبني بعد ذلك على شئ آخر، إذاً فهو كرم كاذب في العملية التربوية، سواء بين الآباء والأبناء، أو بين العلاقات الإجتماعية.

علينا أن نُلاحظ هذه الأمور، وهذا سينعكس على العملية التعليمية. وأنا أحاول تلخيص موضوع واسع، ولكن أقول أنه إذا أردنا الانطلاق علينا، أن نهتم بحرية وكرامة هذا الإنسان، قضية الأصالة والثقافة التعليمية والتربوية، علينا أن نتساءل الآن، فَكِّروا في البيئة التربوية التي أنتم فيها سواء البيت أو المدرسة أو المؤسسة وما إلى ذلك، ما الأهداف التربوية العملية المبثوثة في ثقافة تلك المؤسسة؟ وحتى مؤسسة الأسرة لا نتحدث عن ما نؤمن به، فربما نؤمن بأهداف، ونمارس شيئا آخر مُعاكسا لتلك الأهداف، دون أن أنتقد سلوكي وتفكيري هذا. يجب على الأهداف التعليمية أن تكون أهدافا واعية، ويكون لها تأثير على المستوى الفردي، وعلى مستوى المجتمع.

كذلك بالنسبة للتعليم، التعليم عندنا هو عبارة عن حفظ وامتحانات، وأنا أرى هذا الطالب أمامي أُحَفِّظه المعلومات، والأم تُحَفِّظُه المعلومات، ولكن لا علاقة لذلك مع العمل، إذاً كيف أُحَوِّل هذا النظري إلى عملي؟ هذه هي المشكلة التي عندنا نحن الآن، لأن الثقافة التي عندنا ثقافة فيها نظري كثير جداً، وحفظ، ولكن هذا الحفظ غير مُستوعِب ولا ندري كيف ننقله للواقع العملي، فالمنظومة نفسها لا تستخدم الفكر النقدي والتأملي، أنا شخصياً لست مع الامتحانات إلا في بعض المواد، فنحن في العملية التربوية علينا أن نراجع عملية التقييم وأهداف التقييم، فقضية الحرية ليست فقط أن أطرح نقاشا لماذا لا أُشارك الطُلاب في طريقة التقييم، وأسأل ماذا يُناسبك امتحانا، أو بحثا، ثم بعد ذلك لماذا لا أُفكر في قضية تقييم أصلية تنفعه في الحياة العملية، فهنا عندما نتحدث عن الحرية لا يعني أنها مجرد شئ نظري نُنَظِّر له، هل تكون هناك المدرسة فيها مثلاً انتخابات على مستوى المدرسة، ليكون هناك مُمثلين للطلبة يجلسون مع المدير والأساتذة يسألونهم عن آرائهم، فتؤخذ بعين الاعتبار في المدرسة، وأن يكون هناك تقييمات حتى من قِبل طالب الابتدائي حول العملية التربوية، ورأيه فيها، وهل تُوافق قدراته.

قضية التسلط طُبعت في كثير من مجالات الحياة، فهي ليست فقط في المنظومة السياسية هي مُطبعة على كل المستويات، في الأسرة، وفي قضية العقاب، فهي ممتدة في الثقافة لذلك عندما نتحدث عن العنصر الأخلاقي في العملية التربوية، فإن هذا العنصر يجب أن يكون مبثوثاً من الجانب الروحي. 

سيدنا يوسف عليه السلام كانت عنده الحرية الروحية، فقد ابتعد عن أبيه، ولكن بقيت معه هذه الحرية في أشد وأحلك الظروف؛ المشكلة عندنا أن الإنسان قد لا يُسجن ولكنه يكون مُستعبدا في ذاته، ومن داخله، فتكون إرادته مُقيدة، فالحرية الروحية تكون مُنبعثة من الداخل مهما اختلفت الظروف، وتًُحفز على المداومة، وعلى الفعل الأخلاقي.

 فأنا باعتباري مربيا إذا قمعت المُتربي كي يُصلي ويدرس، وإذا قمعت الفتاة كي تتحجب، وتنزعه خارج البيت، وتتحجب عندما تعود، ويُصلي المُتربي ويدرس أمامي فقط، ويُقلع عن ذلك عندما أغيب، هكذا أكون ربيت مُنافقا. لذلك يجب أن نتساءل ما القيم التي نُريدها؟

 الواقع الجمالي الذي ذكره ابن خلدون، والمُكَوِّن الجمالي للذوق العام، هل نُراعي في تربيتنا البيئية والاجتماعية والأسرية الجانب الجمالي؟ الذوق موجود أيضاً في المعاملة، فمن الذوق أن لا أتسلط ومن الذوق، أن لا أسرق، ولا أكذب، وهكذا.. فالذوق أوسع من الجمال الشكلي، فالجمال الشكلي هو جزء أو بُعد من الذوق ككل. إذاً، فالحديث عن الذوق يدل على ثقافة مُجتمع، ويدل على قضية فكرية، إذاً إذا أردنا العمل، فالحرية شرط العمل، لأنه من لا يشعر بالحرية، لن يعمل، ولن ينطلق، وكذلك الذي ليس لديه فكر نقدي إبداعي. وهذا الفكر النقدي الإبداعي يتم توليده بعلاقة الطالب والمُعلم، والمُربي والمُتربي عموماً.

- شمس الدين حميود: جزاك الله خيراً دكتورة فلة على هذا الإجمال والتفصيل، والآن إذا سمحتي لي أن أبدأ جملة أسئلتي من حيث انتهيتي، قضية الحرية قضية مُهمة جداً، والحقيقة توصية التربويين بمبدأ التحرر التام في عملية البناء التربوي، ويعتبرون أن تقييد الحرية الشخصية هو شيء ضار تربوياً، ويرون أن التربية يجب أن تقوم على التحرر، خاصة أن المنع هو وسيلة الخائف والعاجز عن إيجاد وسائل وحلول للمشكلات التي يُواجهوها، هذه الرؤية وإن كانت تَحْمِل قدراً من الصوابية في كون الإرغام على الفعل يسلب الشخصية قدرتها على القرار في المواقف المختلفة، إلا أنها أيضاً تحمل قدراً من التناسي بأن الإسلام قد وضع رؤية متكاملة لعملية المنع، فلم يجعلها عشوائية، بل جعلها منهجية علمية وإيمانية، سؤالي هنا دكتورة ما هو الخيط الناظم بين التحرر والمنع في الممارسات التربوية، حتى نضبط هذا التفاعل بين المنع؟

- الدكتورة فلة لحمر: طبعاً لا تُوجد حُرية مُطلقة جميعنا نتفق على ذلك، فمن باب حريتنا أن نتفق جميعاً على قوانين تُقيد حريتنا، أي أن تكون هناك ممنوعات في المجتمع نتفق عليها، لتُقيد هذه الحُرية، فالحرية المُطلقة غير موجودة، ولكننا نتحدث عن هذه الحُرية التي تُحقق كرامة الأمة، وتضمن الانطلاق الحضاري، فعندما أتحدث أنا إلى أي مدى أترك الحرية لأولادي مثلاً، أو لتلاميذي فإلى أي مدى تكون الحرية؟ فنتفق على حدود، بالتأكيد الحرية هي ليست عبثا كأن يكون الطالب داخلا الفصل، وخارجا منه، من دون انضباط، ومن دون وقت، فنتفق على أن تكون هناك مثل العَقد المُشترك. فمن البداية نتناقش هذه الأمور المُتوقعة منك، وهذه الأمور المُتوقعة مني، فمثلاً في بداية المحاضرة الأولى في الجامعة أقول للطلبة ماذا تتوقعون مني خلال هذا الفصل، أو خلال هذه السنة، وهذه هي الأمور التي أتوقعها أنا منكم. فنتناقش في التوقعات وما هي المعايير التي لدي، وما هي التي لديكم، هذا جزء من الاقتراح، وجزء من الأخذ والرد وما هي الاقتراحات ليكون عندي تقييم غير التقييم الرسمي الذي تعتمده الجامعة، مثلاً هناك تقييم أقدمه للطلاب نهاية كل حصة، وأسألهم ما تقييمكم لهذه الحصة من باب أن الطالب يشعر بأن له رأيا مسموعا، وهذا يجعله أكثر تقبلاً لرأيك المُخالف.

ثم هناك شئ آخر، إذا قلنا أن الاعتقاد نفسه بالإيمان بالله سبحانه وتعالى أعطى فيه الخيار {لا إكراه في الدين}، فكيف لنا عملياً أن نُكرِه الشخص ليفعل شيئاً هو غير مقتنع به، أنا لا أعتقد أن ذلك ممكن فقط نحن نُعلمه التدليس، وأن يُغطي الأشياء، وقد نُدخله في أزمات صحية ونفسية.

النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه شاب يستأذنه في الحرام، لم يقل له "ألم تؤمن بي رسولا؟" ويقرأ الآيات بالتحريم؛ "ألا تتقي الله عز وجل؟" ولكن ترك له الفرصة ليتحول من الداخل، وهذا الذي نُريده لهذا الطفل، أو هذا المُجتمع بأن يتحول من داخله ويقتنع بذلك، أن يكون خياراً له، وسنسعى في ذلك بالحوار المُحترم كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم. 

وكما قلنا توجد هناك قوانين في المجتمع لتحمي المجتمع إلى حد معين، ويكون بمثابة تعاقد، وهذا التعاقد نتفق على شروطه وبنوده من البداية، ثم نلتزم بذلك ما دام نحن اخترناه.

أما قضية الإلزام فقد يكون للبيت شروطا مُعينة، فهذا البيت له شروط مُعينة نلتزم بها، ونتناقش في الذي نختلف فيه، أنا شخصياً أعتقد جداً أننا أحياناً نقنع بسبب الذوق، فأقول مثلاً ابني في سن الشباب اليافع، سنه غير سني، وجيله غير جيلي، هو اقتنع بحلاقة معينة، وأنا ليست على ذوقي وليست على طريقتي، فأنا أسأل هي مجرد ذوق؟ وهل هي حلال أم حرام؟ لأُفَهِّم نفسي أولاً، فإن الإنسان لا يستطيع أن يتغير ما لم يفهم نفسه، فكيف له أن يُغير الآخرين، وهو لا يفهم الدوافع التي تدفعه، لأن يُحب شيئا أو لا يُحب شيئا آخرا. فحين نفهم أنفسنا هذا يجعلني أسأل هل عندي حق في هذا الموضوع؟ أحياناً لا يكون لدينا حق في الاعتراض، فهو له مساحته الخاصة، وجيله الخاص، وقد أعجبته هذه الحلاقة، وليس فيها حرام، ولكنها أيضاً ليست على ذوقي، سيكون علي أن أتقبلها، مثلما أُطالب الآخرين بِتَقَبُّل ما أخالفهم فيه، أما لو كان فيه حرام فهذه دائرة أخرى، ونتناقش هل هي على مستوى الإعتقاد، أم هي على مستوى السلوك؟ وهكذا أحياناً ننتقل من قضية السلوك الفرعي إلى قضية العقيدة، يعني لا يُمكن أن يُطرد الطفل من البيت لأنه حلق القزع مثلاً، فأمه وأبوه لا تروق لهم الحلاقة، فيقولون له لا نُريدك في البيت بهذه الحلاقة فيرمونه للشارع. 

فكما توجد دوائر في مقاصد الشريعة نحن نحتاج هذه الدوائر في التربية، فننظر في الأمر من الجانب الشرعي، ومن الجانب التربوي . فأنا لا يُمكن أن أُعاقب طالبا من ناحية تربوية، لأنه لم يُؤَدِّ الواجب، وهذا الواجب يحتاج لإنترنت، وهو من أسرة فقيرة، وليس لديهم القدرة على توفير اشتراك الإنترنت. ففي هذه الحالة أكون قد تعسفت وظلمت، فأنا لا أستطيع أن أُطالب تلميذا مريضا في المدرسة بأن يُركز في الدرس، لأنه هناك أولوية في الاحتياجات.

فبالعودة إلى سؤالك عندما نتحدث عن الحرية يكون الأمر حسب الحاجة، وحسب الأولوية فما لم نُحدد الأهداف والأولويات التربوية لن نستطيع أن نتعامل معها.

- شمس الدين حميود: بارك الله فيك دكتورة، وعطفاً على ما ذكرتي هل يُمكننا القول أننا بحاجة إلى تبيان الحكم الشرعي في الواقعة مصحوباً أيضاً بتفكيك الخلفيات الفكرية والفلسفية للمفاهيم الرائجة حالياً وتطبيق نموذج تفسيري يُعين على حسن التشخيص وأيضاً جودة العلاج، ما يقودني لهذا السؤال هو ما ذكرته من مثالك عن الشاب مع النبي صلى الله عليه وسلم، فهل نحن بحاجة إلى مُصاحبة تفكيك الظواهر الحالية إلى جانب حكمها الشرعي؟

 الدكتورة فلة لحمر: بالتأكيد طبعاً وأولاً شكراً لك على إثارة هذه النقطة التي عادة ما أُثيرها في قضية الفكر النقدي، فمن ناحية التعامل نحن لسنا في عزلة ثقافية عن العالم، بل نحن منفتحون على العالم، فمثلاً إذا أغلقت الإنترنت عن ابنتي أو بني، فصديقه لديه إنترنت وهو متأثر بذلك، فأنا مهما حاولت ومهما أزعجني ذلك هو سيتعرض لكل هذه الأفكار فالأولى بي أن أُعطيه تطعيما وأن أفتح الحوار معه في الأفكار التي لا أُريدها، والتي لا تروق لي تماماً، وأنصت له وأفكر في تلك الحجة، وليس استمع كي أرد فقط، فأفكر وأرى النقاط التي أتفق معها فيها، والنقاط التي أختلف فيها، وما هي النقاط المُنصفة وإن كنت أختلف معها، نحن لدينا ثقافة الأخذ بالجملة، أو الرد بالجملة، مع الأسف هذا لا يصلح، فنحن لدينا الحكمة في الثقافة الإسلامية، والحكمة ضالة المؤمن، فمن الحكمة أن أُفكر وأدقق، وأن أرى ما لا يصلح، مثلاً ثقافة الجاهلية قبل الإسلام كان فيها الكرم والشهامة، ولكنهما كانا يُطبقان بطريقة خاطئة أحياناً، فجاء الإسلام، وقام بتعزيز مكارم الأخلاق وأصلح الفاسد فيها، وهذه هي الفكرة من وراء الفكر النقدي، فنحن نتعامل مع منظومة في العولمة وأبناؤنا في هذه المنظومة، ولا نستطيع أن نعزلهم عن هذه المنظومة لذلك علينا أن نكسبهم المناعة اللازمة لمواجهة هذه المنظومة، فنحن نؤمن بوجود البراهين فحتى ابنك عنده الحق بأن يسأل عن البرهان حول هذه الحجة، وكذلك الطالب، عادة نحن في ثقافة التغلب وثقافة القهر نأتي بالحكم ونطلقه، ولكن إذا سألتني لماذا وصلت إلى هذا الحكم، أنا لم أصل إليه بعد، ومن حقي أن أسير في هذا النسق، ومن حقي أن أعرف الحجة، وأن أفكر حتى أصل إليه. أنت هكذا لا تثق بي ولا تحترمني، ونخلط بين الاحترام وبين حق الإنسان في الكرامة والحرية لمعرفة الحجة كذلك، لذلك في المنظومة التربوية سواء في المنزل أو في المدرسة، أنا أرى أفضل طريقة لحفظ أطفالنا هي إكسابهم المناعة الفكرية اللازمة، لذلك فقضية البيداغوجيا كيف يدخل الأستاذ، وكيف يعرض حجته، فهذه قد تكون فيها مساحة قمع، وقد تكون فيها مساحة حرية للطالب

 العديد من الطلاب كتبوا لي أن أفضل شيء كتبناه من خلال النقاش مع بعض، فأنا لا أعطيهم الوصفة جاهزة، بل أعطيهم النص يقرؤوه ويتناقشوا فيه، وأنا أجلس للاستماع، فالذي أفعله أنا كمُعلم أو كمُربي أوجه الأسئلة، وأعطيهم المقروء. 

وهكذا يبني الطالب قضية المَلكة التي ذكرها ابن خلدون، فمَلَكة التفكير النقدي هذه ستقويه فكريا، لأنه لن يجد الحل الجاهز بعد ذلك فسيبدأ يقرأ هنا وهناك، فيعرف ما الأفكار المزيفة، ويعرف كيف ينتقد الفكرة، بعد ذلك يتعلم كيف يعتز بثقافته وتاريخه؟ وكيف ينقح هذا التاريخ؟ أنا أقول لأبنائي بصراحة تاريخنا ليس تاريخ ملائكة، وليس تاريخ شياطين، بل هو تاريخ فيه الكثير من الأشياء الجميلة التي بنت حضارة، لكن فيه الكثير من الأشياء غير الجيدة التي هدمت تلك الحضارة، وأوصلتنا لهذا الجمود.

الصراحة ليست فقط راحة، بل هي كرامة واحترام وثقة، فنحن عندما نخبيء، فإننا نهدم الثقة بيننا وبين طلابنا وبين أبنائنا، أنا أسمع الكثير من الأمور، مثل: واحدة تقول أنا لا أحب السجود في الصلاة، هذا فقط مجرد تعبير، وكونها قالت هذه الجملة، يعني أنها تُريد السجود، ولكن لديها مشكلة. فكيف أحل المشكلة، أنا لا أستطيع، إذاً فقضية التفكير النقدي تُمكن المُسلم من إدراك أسباب الانحدار، فجزء من أسباب الانحدار هو الانغلاق، وعدم سلامة العقل، وهذه ذكرها ابن عاشور رحمه الله. 

ونحن المربين علينا أن نحافظ على سلامة العقل، فَلِم نشوش على هذا العقل بحجج باطلة، لأنه ليس عندنا الشجاعة أن نعترف بأن هناك ظلم للطفل والمرأة وظلم للإنسان عامة في مجتمعاتنا. كل واحد يقول أنا مظلوم كمواطن، ولكن عندما نأتي للأسرة لا أريد أن أقول أنا ظالمة كأم، هذه مشكلة، لذلك علينا أن تكون عندنا الشجاعة لإتقان عملنا التربوي، ومن إتقان هذا العمل أن نعترف بالنقص الإنساني. هذا النقص الإنساني يتمثل في أننا نخطئ كمربين، ولا نكون دائماً على صواب، وجزء من هذا هو الفكر النقدي، عادة في الحصص أنا أطرح للطلبة مجالاً للنقد، فأقول أريد منكم أن تنتقدوا، لا أريد منكم أن توافقوا، ولكن أريد منكم الحجة، وأريد منك أن تكتب لي بحثا مخالفا، ولكن بحجة ومنطق ودليل، ولو خالفتني أحب إلي من أن تكتب لي بحثاً عقيماً تردد فيه الكلام من أجل أن ترضيني، لذلك نجد أن قضية العملية التربوية عندنا تعاني من كثرة المعلومات، وقلة المعالجة والتحليل والتفكير، هذه عندنا ناقصة حتى بالنسبة للأهداف التربوية هي ناقصة.

- شمس الدين حميود: بداية الحديث دكتورة ذكرتي ضرورة التعايش مع الواقع وعدم الهروب منه، وهذا ذكرني بكلام الدكتور عبدالوهاب المسيري رحمه كان يقول دائماً أن هذا العالم صنع في غيابنا، لذلك البكائيات والهروب منه لن يُقدم ولن يِؤخر شيئاً إلا محاولة استنقاذ ما بقي منه، وتقديم نموذج يُعين على تشكيل نموذج خاص، وهو ما يُمَكِّننا من إبراز ذاتنا، ومعالجة إشكالاتنا الواقعة، في جانب آخر دكتورة التقط بعض الإشارات فيما يتعلق بتركيب المشكلات، أو أنها لا تعتمد على جانب واحد أو نظام واحد، إنما هي نوعا ما مترابطة فيما بينها، وأجدني مضطراً إلى أن أسأل عن بعض إشكالات تشخيص داء الأمة، والتي منها حسب ما أعتقد ذلك الانحياز للتخصص، يعني أنها مركب من مركبات الإشكال في حد ذاته، أي أن المتخصص الاقتصادي يرى مشكلات الأمة الإقتصادية، ويرى أنها إن حُلت، سَتَحُل المشكلة، والمتخصص بالتاريخ يرى أن المشكلة هي مشكلة تاريخية، وما إلى ذلك، فهنا لا نُريد أن نُقلل من شأن التربية، وإنما نُريد أن نُشير إلى أن علاقة التربية بالنظم الحياتية الأخرى هي علاقة جدلية، وعلاقة تأثير وتأثر. وهذا يقودني إلى السؤال كيف نخفف ثقل المسؤولية عن المُربي، والغالب أن هناك عوامل أخرى مؤثرة، عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية؟

- الدكتورة فلة لحمر: بارك الله فيك، أنت ذكرت هنا قضية التخصص طبعاً هنا العملية متشابكة فأنا في البداية ذكرت أسباب الانحطاط ثم عرجت منها إلى الجانب التربوي، ثم دخلنا عمق العملية البيداغوجية بصفة أن هذا الإنسان عندنا يدخل المدرسة، ويخرج منها، فالعاهات الموجودة في المجتمع ستنتقل للمدرسة. فالمعلم هو جزء من هذا المجتمع لذلك، فالتسلط السياسي الموجود مثلاً، والقهر والغلبة الموجودون ستنعكس على نفسية المدرس، وبالتالي على الطالب والمتعلم، كذلك جزء من هذا المجتمع، كما الآباء والأمهات. 

فالمنظومة التربوية هي مرتبطة بباقي الحياة من عدة جوانب، من جانب أن الإنسان الموجود فيها، هو إنسان من عمق المجتمع، ومن جانب المنتوجية يخلص إليها ما في المجتمع، ثم تعيد إنتاجا آخرا خارجها إلى المجتمع، فهي عملية ازدواجية، قضية استقبال وقضية إنتاج. 

فإن أردنا التغيير؛ علينا أن نركز على المجتمع، وعلى المنظومة التعليمية التي عندنا. فهذه المنظومة هي أيضاً غير معزولة عن الجانب السياسي، وأنا أعتبر أن العملية التعليمية هي عملية سياسية كذلك، وحضارية بِبُعدها من جانب رؤيتها لطبيعة الإنسان، ومن جانب رؤيتها لطبيعة المعرفة، ومن جانب رؤيتها لأهداف هذا الإنسان في الحياة، والعديد من الجوانب الأخرى. 

فكل هذه المناحي تؤثر على العملية التربوية من حيث البيداغوجيا، ومن حيث المُخرجات، ومن حيث المحتوى، ولكنها بحد ذاتها متعلقة بالسياسات الموجودة، سواء كانت منتخبة أو غير منتخبة، ستؤثر هذه على المنظومة السياسية ومخرجاتها، مثلاً عندما يكون هناك تسلط في المنظومة السياسية، نجد وزير التعليم مثلاً لا يتحدث لغة المجتمع فينتج لنا وزيرا للتعليم عاش في هذا المجتمع، ولا يتحدث لغته، فهذا احتقار ضمني لكل هذه المنظومة. وأن هذه اللغة، وهذه الثقافة ليست من أولويات المنظومة، حتى وإن لم تصدر أي قوانين، فقط مجرد أن هذا الوزير من المنطق السياسي التسلطي، قد أعطى إيحاءات، وأعطى قيما وأشياء كثيرة لهذه المنطومة. لا نتحدث عن التداعيات السياسية التي تنتج من هذه المنظومة، ونحن هنا نتحدث عن المنظومة الاقتصادية، ونتحدث عن منظومة التعليم، يجب أن نتحدث عن قيم الذوق والجمال، ونتحدث عن قيم الحياة والرزق، فنحن عندما نفكر علينا أن نفكر في إطعام هذا المجتمع من الجوع، ويجب أن نفكر في قضايا الأمن، فالرزق أيضاً من القضايا التربوية، وقضية العلم والمعرفة ليس فقط أن نحفظ، ولكن أن نعرف كيف ننتج وكيف نبدع، وليس أن نكون مستهلكين.

 المشكلة التي عندنا هي عندما نريد وضع مناهج، يذهبون ويضعون مناهج من الدول الأخرى، وهذه المناهج قد أُنتجت ضمن تدافع مجتمعي أنتجها لصالح ذلك المجتمع، فعندما تخرج ذلك المنهج من سياقه، ونضعه في سياق آخر، يُصبح قاتلا ومميتا للمنظومة الأخرى، ولا ينتج ذلك الإنسان المبدع، فنحن لا نستطيع أن نذهب إلى بلد آخر ونُحضره، بل يجب أن نتعلم من تجارب الشعوب الأخرى، ونستلهم منها فقط، ولكن كل مجتمع عليه أن يُبدع، ويُنتج منظومته الخاصة، تأخذ بعين الاعتبار مشاكله الاجتماعية من كافة النواحي الاقتصادية، والأمنية، وقضية الإنسان، وطبيعة التاريخ، وأهداف الحضارة، وأهداف المستقبل، كل هذه العناصر جزء في المنظومة التربوية، فمثلما ذكرت هي قضية علاقات لها علاقة بالمجتمع، بحيث تتأثر بما يُوجد في هذا المجتمع والسياسات المفروضة عليها، تُشَكِّلها عبر الزمن، ولكنها كذلك تشكل الإنسان الذي يخرج للمجتمع، الآن مثلاً في الجزائر تتجه المنظومة نحو الخوصصة والتهميش، وظهور طبقية بصورة مُلاحظة بتزايد، وتهميش الفئة الفقيرة، وسنصل إلى مرحلة سياسية أنها ستكون هناك جامعات للأغنياء وجامعات للفقراء، وأن هذا سيؤثر على فُرص العمل، ولن تكون متساوية، لأنه ستكون هناك مدارس للأغنياء، ومدارس للفقراء بمستوى تعليم أقل، فالذي سيتخرج من المدرسة الخاصة، سيكون له مستقبلا اقتصاديا، وذلك عكس الذي سيتخرج من المدرسة العامة، مما يؤدي إلى زيادة دائرة الفقر، وظهور الطبقية في المجتمع، وليس فقط على المستوى المادي، بل أيضاً عل مستوى المناهج، حيث ستصبح هناك منافسات حول ماذا سيُقدم.

 وقضية الثقافة، وقضية البيئة المدرسية، وقضية الثقافة المبثوثة في بيئة المدرسة أيضاً هي مهمة جداً. أنا درست في مدارس مختلفة وكثيرة في السعودية، وهنا في بريطانيا، ورأيت بيئة المدرسة، وأن هناك جيل في السعودية سيخرج مستغربا من اختلاف الثقافة. فالمناهج مستوردة تماماً، فخارج سور المدرسة أنت داخل السعودية، وداخل سور المدرسة أنت خارج السعودية، أنت في أمريكا أو كندا أو بريطانيا. فالمعلمون عبارة عن تشكيلة من هذه الدول، أنا كنت أعيش هنا في بريطانيا، وبالرغم من ذلك هناك أمور اكتشفتها هناك بالمدرسة الدولية في السعودية، فقد كانت ثقافة بريطانية ولكني تعلمتها في السعودية.

وعند العودة للحديث عن قضية الثقافة، فنحن نتحدث عن التربية للانبعاث الحضاري، فقضية الغزو الثقافي خطيرة، لأنها تقتل في الإنسان روح الإبداع، وكذلك تجعله يشعر بالدونية، وأنه دون الآخر، وغير كفء، وكلما شعر بأنه غريب عن ثقافته، وعن تاريخه، وكل ما زاد تقليده لثقافة الغير؛ كلما زادت غربته عن ثقافته، وزاد بُغضه لها، واحتقاره لها، وبالتالي قلت فاعليته. 

وكلما قلت هذه الفاعلية، وشعر بأنه غير قادر وعاجز، وزادت القيود عليه، وكلما زادت القيود؛ زاد اغترابه أكثر عن ثقافته، وعن تاريخه، وبدأ بالتنصل عنه، ولو تنصل منه قتل نفسه، لأنه في الحقيقة لن يستطيع أن يقف إلا بشئ ليس جامداً، فلا يحضر الماضي ويقول عندي الجاهز، إذ أنه نفع في الماضي فسينفع في المستقبل، لا لن ينفع، فنحن عندنا تَغَيُّر، فقد تغير الزمن، وتغيرت المعطيات، وعلينا أن نجتهد، وبالتالي قضية الإنسان الذي يبحث في الماضي ليجد الجاهز، ويُحضره ويضعه، لن يصنع حضارة. وكذلك الإنسان الذي يرمي تراثه، هذا كذلك يقتل نفسه، لأنه يطعن في فاعليته، وفي الحقيقة هذا المجتمع لن ينهض إلا من ذاته، ومن شعوره بالحرية من الداخل، وبالروح الفاعلة التي تدفعه نحو العمل، وبالابداع وروح الإبداع والفكر النقدي، والثقة في النفس بحيث تجعله يستفيد من الثقافات الأخرى، فلا يعزلها ولا يرميها. وكذلك لا يأخذها جملة، وإنما يتعامل معها بصورة نِدٍّ لند. أنا عندي حضارة، وعندي تاريخ، نعم لن أحضرها كلها، ولكن سأبحث فيها عن عوامل النهضة.

- شمس الدين حميود: دكتورة الانفصال عن مجال تداول الإسلام بجميع سياقاته التاريخية والثقافية هو ما يسبب المحاكاة التي ذكرتيها، أي محاولة استجلاب النماذج الجاهزة، والأصل أن يكون هناك فقه واستنباط لما يصلح للسياقات الخاصة، لو استفادنا وجودك دكتورة لتقييم، ولو بشكل بسيط الجانب المعرفي الذي يسبق الممارسة الناضجة، قد يكون متمثلاً في البحوث التربوية وما تنتجه، لو ننظر فيما شهده العالم من تحولات هائلة، وسريعة هل نجد أن البحوث التربوية في العالم الإسلامي تواكب تلك التحولات؟ وإذا جاز لنا التعبير هل تطورها بحسب الحاجة؟

- الدكتورة فلة لحمر: بصراحة هو سؤال معقد من جوانب مختلفة، دعنا نقول أننا عندما نتحدث عن البحث، فنحن نتحدث عن الجامعة، أو البحث العلمي في المؤسسة التربوية على المستوى الجامعي وهي غير مفصولة عن الابتدائي، وغير مفصولة عن المتوسط والثانوي، فهي تستقبل ما أُنتج سابقاً إليها. فالطالب الذي أنتجته منظومة النسخ واللصق سيبقى نفسه نسخ ولصق في الجامعة. وإلى أن يُصبح أُستاذاً يستمر الحال على ما هو عليه.

 أنا لا أُعمم فقد قرأت بعض البحوث ما شاء الله مليئة بالإبداع، ولكن عادة أجد أن هؤلاء الأشخاص، وهؤلاء الأساتذة هم من النوع العصامي الذي يقرأ ويدرس خارج المنظومة، ولا يعتمد على الكتب المدرسية، فهو من النوع الباحث المُجد الذي يُعرض نفسه فعلاً لأفكار مختلفة، ويطور نفسه خارج المنظومة، فهذه النماذج موجودة، ولكن أنا لا أتحدث عن هذه النماذج، أنا أتحدث عن ماذا تُنتج المنظومة نفسها.

 فبالنسبة للمنظومة كثير من البحوث التي أقرأها قضية نسخ ولصق، وكذلك قضية الغش هي قضية مأساوية وموجودة حتى هنا. فقد ظهرت برامج للغش ومؤسسات مُبدعة في الغش، ولكنها مُحارَبة وتُوجد منظومة تُحاول أن تتحدى هذا الغش، ولكن عندنا هي مفتوحة على مصراعيها.

في حديثي هذا علي أن أؤكد أني لا أقصد الجميع، لأني رأيت من الأساتذة الأكفاء في الجامعة الجزائرية، أو في غير الجامعة الجزائرية، وفي الجامعة العربية، وقرأت لهم، ولكن إن هؤلاء عندهم عزيمة على الدراسة والبحث وتطوير الذات. أما المنظومة نفسها قد تعرقله، فقد يكون الأستاذ جيدا، ولكن يجد المدير الذي يعرقله، أو أن ينال الترقية شخص غيره بفساد، ولا أقول أن جميع من رُقي قد رُقي بفساد، ولكن هذا الشيء موجود. لذلك دعنا نتحدث بصراحة، فإن المنظومة السياسية عندما تفسد، فهي كذلك تنقل فسادها إلى المنظومة التعليمية، الغش الذي يقع في مسابقات الأساتذة على مستوى الثانويات، والأساتذة الذين يدخلون بالمحسوبية، فتجد أن الكفاءة لم تنجح، ولكن تجد فلانا نجح، لأن عنده فلان، وعنده فلان. وهو في الحقيقة لا يستطيع أن يكتب جملة مفيدة في الموضوع، وهذا الفساد خطير على المنظومة، لأنه سيؤثر على كل القطاعات، الآن الجامعة عندنا يجب أن تكون حيوية جداً في علاقتها بمنتوجية المجتمع، فالجامعة في عمق الاقتصاد، وفي عمق المجتمع، فالآن عندما نتحدث عن قضية التطعيم ضد كورونا، فإنه من المفترض أن يتحدث عن ذلك باحثون في المنظومة التعليمية. فالمفروض أن الجامعة في عمق المنتوجية وليست للاستهلاك، فحتى البحث الفلسفي يجب أن يكون له إنتاجية.. مثلاً أنا الآن أُريد أن أُقدم بحثا، وأُريد دعما ماديا للبحث، فيجب علي أن أُثبت الفاعلية والتأثير، وهذا التأثير يتجاوز النقاش الفكري، يجب أن أذكر تأثيره على المجتمع وعلى الاقتصاد، فبقدر ما أستطيع إثبات هذا التأثير، بقدر ما يكون هناك احتمالية أن أحصل على الدعم، ولكن لتقييم البحث ألا تُطرح الأسئلة. وهل يُعتبر هذا تسييس للبحث، نعم هناك تسييس للبحث العلمي، ويوجد تحيز للعلمي، وأنا لا أؤمن بأن هناك بحث علمي ليس فيه تحيز، فالتحيز يبدأ من طرح السؤال، ومن الدعم المالي، ولكن نحن ننظر ما نوع هذا التحيز؟ ولصالح من هذا التحيز؟ وما آثار البحث العلمي؟ هل هو تدمير المنظومة؟ وهل ستكون عنده تداعيات على المجتمع؟

 أنا ناقدة للمنظومة التعليمية البريطانية، وأكتب عن المنظومة الرأسمالية التي تتوجه نحو تهميش الفقراء، ولكن أنا أرى أيضاً أن هناك جوانب إيجابية، فالجامعة لها دور في تطوير الفكر والنقد، وفي طرح الأفكار. 

فإذا تخرجت من الجامعة بتميز، فأنت فعلاً غير خائف من الأفكار الأخرى، بل أنت تتفاعل معها، وتقرأ وتُميز، وتستطيع أن ترى علاقة علم الاجتماع بالواقع العملي، إذا ذهب طالب ليدرس علم النفس التربوي، وظل الأمر مجرد تنظير لمدة سنة، وأنا الآن خارج للمجتمع فما علاقة هذا بالعملي وبالتدريس في الفصل؟ وهذا البحث الاجتماعي الذي أصدرته ما تأثيره على المجتمع؟ فإذا لم يكن عنده تأثير إلا أن يكون على الرف في المكتبة، فتلك مشكلة أخلاقية، فنحن عندنا العلم مع العمل، وهذا الإنسان صرف للعلم عمره وطاقته، وبناء على ذلك يجب أن يكون عنده تأثير معين، يعني هناك مخرجات لهذا البحث بحيث لا يكون فلان أخذه من هذا الجانب، وفلان أخذه من الجانب الآخر، وهذا ليس فقط في الجزائر، أنا رأيت منظومات عربية أخرى، وهي كذلك تحتاج إلى إعادة النظر فيها، ليس على مستوى الوطن العربي فقط، وإنما على نطاق جميع الدول المسلمة. نعم هناك بعض الدول المُسلمة بدأت بتغيير هذه المنظومة، ولكن الدول العربية مازالت فيها قضية الحفظ، وقضية الأخذ بالجملة، والرفض بالجملة. ثم نذهب إلى جامعات نستوردها كما هي نستورد جامعة أمريكية أضعها عندي، وغيرها من النماذج فماذا ستنتج لي هذه الجامعة، الآن نحن هنا في الجامعة ندافع عن قضية المناهج الاستعمارية، لأن الطلبة من حقهم أن يدرسوا مناهج غير استعمارية، وبالتالي يجب على الطالب أن يتعرض للفكر الغربي كما هو، وأن يتعرض للفكر الآخر كما هو، ولكن عندما تأتي هذه المنظومة إلى دولة أخرى، وتأتي بقضية الغالب، وقضية البريق، وتأتي لتجد منظومة أخرى تفتقد لأدنى درجات الجودة فتبلعها.

وعندما نرجع مرة أخرى إلى قضية قتل الإنسان، حينما نُسِكن فيه نفسية المغلوب، فإننا سلبناه الإرادة، وأدخلناه في قضية القدرية، أو قضية العنف ضد مجتمعه.

- شمس الدين حميود: آخر سؤال أُريد أن أطرحه عليك دكتورة قبل الانتقال لأسئلة الجمهور، هو بما أنك موجودة في بريطانيا، وخبيرة في وسائل التربية، كيف ترين المحاولات الغربية للتطبيع مع بعض المفاهيم المنتكسة عن الفطرة الإنسانية؟ مثلاً محاولة التطبيع مع ما يُسمى بالمرونة الجنسية، وفي المدارس خصوصاً بالنسبة للأطفال الصغار التي تتمثل في أحقية تعريف الأطفال بهويتهم الجندرية التي يشاء، إلى أي مدى يُمكن أن تتمادى الحرية الغربية في هذا الأمر، مع العلم أن هذا الأمر يُمثل ازدواجية نوعاً ما. فهل يمكن للإنسان الأبيض مثلاً أن يُعرف نفسه على أنه أسمر؟ وهل للإنسان الذي تجاوز 18 سنة، هل له أن يُعرف نفسه على أنه أقل من ذلك، ارتكازاً على مبدأ حرية التعريف الذي أقروه؟ سؤالي هنا هو بحكم خبرتكم كيف تتعامل الأُسر المسلمة مع هذا المنحى المُصادم والمُنتكس عن الفطرة.

- الدكتورة فلة لحمر: طبعاً هنا توجد تحديات كثيرة للأسرة المسلمة المتدينة، والتدين في أوروبا عموماً يتراجع لصالح الإلحاد، لكن نحن نتحدث عن ثقافة مجتمع فعندما تعيش داخل مجتمع هو غير عن ما تنظر إليه من الخارج، فعندما تعيش في المجتمع تُدرك أن هذا منتوج هذا المجتمع، فهذا المجتمع هو يملك إرادته، وهو يختار جانبه الأخلاقي، سواء اتفقنا معه أو اختلفنا معه. ولكن هناك جزء منه أنك كمواطن لك أن تُعبر عن رأيك، وتطالب بحقك. فمازال هذا الحد إلى الآن موجود، ولكن هذا راجع لتدافع المجموعات الدينية المختلفة، سواء المسلمة، أو بعض المجموعات الدينية الأخرى، تتدافع فيما بينها، وتبني علاقات من أجل الحفاظ على حرية الدين، وأن ابني له الحرية في أن يؤمن بالمعتقدات التي أعتقدها من دون أن يضر بالآخرين، إذا اختار هذا الإنسان أن يحول جنسه، وأن يقول لست امرأة أنا رجل، أو أنا إمرأة ولست رجلا، في هذا المجتمع هو حر في قول ذلك، لأن هذا منتوج هذا المجتمع، لكن هل يُفرض ذلك كعقيدة على غيره، هنا نقاش حاد على ذلك، ونقاش داخل المدارس على جميع المستويات. وشخصياً أرى أن الأسرة هي لب الموضوع، لذلك قلت في البداية أنه علينا أن نكون صرحاء مع أبنائنا عن طريق التربية بالحب، والتربية بالكرامة. 

فعندما تبدأ الأسرة بوضع أسوار على الأبناء، بحيث أن لا يتعرضوا للمجتمع، وأن لا يعرفوا ماذا يُوجد بعد ذلك، يأتي الطفل، ويأخذ صدمة قوية، لا يستطيع أن يتحملها في المجتمع، ويشعر إما أنه ينسلخ تماماً، لأنه لم تُقدم له أدوات التفكيك والمرونة. أنا لا أجد عندي مشكلة في التعامل مع الجامعة والمجتمع، لكن هذه تحتاج إلى ثقة في القيم التي عندك، وأن تكون واثقا، وعندك مرونة وعقل، ونقد ومنطق، بحيث تستطيع أن تُناقش نقاشا عقليا مع الآخر، وتُبين فيه قيمك من دون تنازلات، ومن دون تشنجات، ومن دون عنف؛ وهذا ينقصنا قليلاً في مجتمعاتنا، يعني تجد اثنين يتناقشان، ويكون هناك عراك وصراخ.

فطبعاً هناك تحديات كبيرة جداً بالنسبة للتربية، لكن هناك فُرص كذلك لا نغفل عليها، فهنا يُمكن للأولاد أن يُصلوا في المدرسة، هنا أتحدث عن بريطانيا، وليس فرنسا. ففرنسا هنا تُعتبر متخلفة، وحتى أكون صريحة مساحة الحرية قد تقلصت هنا في الجامعة، تقلصت كثيراً عن التسعينات، يوجد هنا قانون صُمم بطريقة عنصرية بغيضة من أجل التجسس، هم يقولون على التطرف، ولكن ما هو التطرف؟ يقصدون التطرف الإسلامي، وبعد ذلك صار على كل المؤسسات التربوية. فأنت كعامل في مؤسسة تربوية عليك أن تتدرب على قضية هل هناك مجال للتطرف، والتبليغ عنه. فصارت المؤسسة التربوية وحتى المستشفيات يؤثر عليها. وطبعاً هذا القانون له تداعيات خاصة على المسلمين، بحيث شعر كثير من الطلبة أنهم مُهمشون، وأنه يُتجسس عليهم. في عام 2008 كان هناك طالب يبحث في قضية الإرهاب حتى وجد الشرطة أخذته، وقد خرجنا في مظاهرة في تلك الفترة من أجل حرية البحث العلمي، فاعتذروا له بعد ذلك، وأعطوه تعويضات، لأن هذا يُعتبر تجاوزا، في الشهر الماضي مثلاً كان هناك نقاش حاد عبر تويتر لبروفيسور في أحد الجامعات المرموقة هنا تَهَجم على مسلم، وقال له أطالبك بأن تقول أنني لا أدعم الإرهاب، فقال له لماذا أعتذر على عملية أنا لم أقم بها، وطبعاً حدثت مشكلة، وبعد ذلك اعتذر البروفيسور، لأنه أنا عندي حرية، وأنت لا تستطيع أن تستدعيني، وتطالبني كمسلم بأن أعتذر، فقضية التدافع الفكري موجودة، وقضية السلطة السياسية موجودة، لكن مع ذلك تبقى مساحة الحريات واسعة جداً، مقارنة ببلداننا العربية؛ والمدارس الإسلامية في التعليم الإسلامي هنا تنتشر كثيراً، وتزيد بشكل مستمر. داخل المنظومة هناك مدارس تدعمها الدولة، يعني مدعومة مالياً بصورة رسمية من الدولة، بحيث أن هذه المدارس فيها الصلاة، فالأطفال يصلون كل صلاة في وقتها، وفيها الحلقات، وهكذا كما أنه توجد مدارس خاصة إسلامية بمناهج محددة، ومدارس إسلامية بمناهج الكتب القديمة. ففي الصباح يدرسون كتب الأصول والفقه، وفي المساء يدرسون الرياضيات والإنجليزي، وهكذا ويسمونها دار العلوم، وهذه المدارس تطورت في عهد نظام الملك، ثم انتشرت في شبه القارة الهندية ثم حُولت وطُورت وهي الآن موجودة في الوسط البريطاني وتنتشر، فلذلك يُوجد جانب التحديات كما يُوجد جانب الفرص.

- شمس الدين حميود: جزاك الله خيراً دكتورة، والآن ننتقل لأسئلة المتابعين وأول سؤال هو كيف ننقل الخبرة التربوية الحديثة، وخاصة في مناهج البحث والتدريس، دون الغرق في خلفياتها الفلسفية والوقوع تحت تأثير رؤيتها المادية.

- الدكتورة فلة لحمر: بسبب هذا السؤال نجد أننا نحتاج للفكر النقدي، فحينما أذهب بنفسية المعجب، وآخذ كل شئ من دون أن أعرف ذاتي، وبالمناسبة أول مُتطلب هو معرفة الذات، فأنا أدرك إذا لم تكن قيمي واضحة، وإذا لم تكن منظومتي الفلسفية واضحة بالنسبة لي، وإذا لم تكن عندي ثقة في تراثي، فلن أستطيع أن أتعامل مع الآخر، فأنا ليس عندي مناعة، وأول شئ هو وجوب أن يكون عندي مناعة، بحيث أستطيع أن أقوم بالتنقيح. لذلك قبل نُعرف يجب أن نُطور مَلَكة النقد، فمن دونها، فعلاً قد نذهب بنفسية المُعجَب، ونُحضر ما يقتلنا بدل ما يشفينا، فجوابي هو أنها مسألة معقدة. وهي مسؤوليتنا نحن أساتذة الجامعات وباحثين، علينا أن نناقش قضية تلاقح الثقافات، ولكن بتكافؤ، ويكون هذا بين المفكرين، يعني الآن ما هو دور أساتذة الجامعات في الجامعات المختلفة؟ 

لماذا لا تُفتح أدوات مُناظرات ونقد؟ ولماذا الجامعات الإسلامية لا تستدعي للطُلاب مُستشرقا، ثم يأتي أستاذ ويناظره بالحجة؟ ثم تُفتح المُناظرة للطلبة، فهذه العملية تُكَوِّن المَلكة والثقة، فتنمية الملكة النقدية مُهمة جداً على العديد من المستويات، وكيفية تنميتها للباحثين والمتعلمين، تتم عن طريق التدريب على كل المستويات، حتى التدريب على المستوى الجامعي، 

فما أهداف هذا التدريب؟ وما مستوياته؟ وما مناهجه والقراءات التي أقدمها؟ فإنه من غير المعقول في برنامج بكالوريوس أن يُعطى كتاب للطالب يحفظه ويكتبه للأستاذ في الامتحان، فهذا يُنتج لنا مُستهلكا للمعرفة، كحاطب الليل. فنحن لم نعلمه كيف يرى في الظلام وكيف يختار، وهذا أيضاً على مستوى الإعلام، لو أُتيحت الفُرص، وكانت هناك مناظرات فكرية بين المتخصصين، بالتأكيد سيستفيد الجمهور ثم نكون ثقافة ونبدأ بتكوين العقل المفتوح، فأنا لي العديد من السنين أقوم بالتدريس، وأجد أنه حتى في الدراسات الإسلامية يكون الطُلاب أقوى عندما أعَرّضهم للأفكار المُخالِفة، وفي بعض الأحيان يشعرون بعدم الأريحية، ويقولون لماذا تُعرضينا إلى هذا. ثم بعد ذلك يفرحون جداً، فقضية المرافقة أن أعرّضه وأتركه، لا أعرّضه ثم أعطيه البدائل، بل أرافقه بالتغذية الراجعة، وبالدعم النفسي والفكري وبتنمية هذه الملكة.

- شمس الدين حميود: يقول سائل آخر ما رأيكم في فكرة التعليم المنزلي وما درجة نجاحها؟

- الدكتورة فلة لحمر: في قضية التعليم المنزلي أقول أنها مُعقدة جداً، ومن الصعب على الوالدين أن يتحولا إلى مُعلمين، ولكنني رأيت أسرا قد نجحت في ذلك، ولكنه يُعتبر التزاما عظيما، أولاً يجب على الذين يُعلمون بالمنزل أن يُدركوا عمق هذه المسؤولية، فبالطبع قد تكون مُنتجة جداً، وقد تكون أفضل من المدرسة، لو وُجدت ظروف أفضل. فقد تكون هناك مناهج ثرية، وقد تكون هناك جولات استكشافية أكثر مما توفره المدرسة، لكن قد توجد مشاكل مثلا كأن لا تتوفر معامل لممارسة الجوانب العملية من النظرية، وقضية البيداغوجيا أيضاً، هل المُعلم المنزلي مؤهل لذلك. هنا في بريطانيا التعليم المنزلي مُنتشر لأسباب مختلفة دينية وغير دينية، وفلسفية، فمنهم من يعتقد أن المدرسة تقتل الإبداع لدى الطفل، وأن المدرسة سجن، أو أنها مجرد بنك، إذاً إذا أردنا أن نأخذ بعملية التعليم المدرسي، علينا أن نُدرك عمق المسؤولية، وعلينا أن ننظر إلى البُعد، فإنه ليس مجرد كتاب يقرؤه وكفى. في التجارب الناجحة التي رأيتها كان الوالدان حريصين على إخراج الأولاد للمجتمع.

- شمس الدين حميود: سائل آخر يقول هل المناهج البريطانية تعتمد المقاربة باللقاءات؟

- الدكتورة فلة لحمر: هنا بحسب المرحلة التي نتحدث عنها فكل مرحلة لها أهداف مختلفة، أنا عملت تدريب أساتذة على تدريس البالغين، ثم تدريب أساتذة على تدريس المتوسط، ثم تدريب أساتذة في الجامعة، فنلاحظ الفرق بين المراحل المختلفة، وحاجات المراحل المختلفة للتدريب، وحين نتحدث عن التدريب، أجد أن أساس التدريب المشترك الذي لاحظته هنا بينهم جميعاً هو عملية التفكير النقدي في العملية التربوية، ولكن توجد فلسفات في قضية التعليم، ويكون الأستاذ له فلسفته، ولا يجب أن يطرح هذه الفلسفة في التدريب. وما أهداف هذه الفلسفة؟ وما تداعياتها على العملية التربوية؟ ويأتي أثناء التدريب مراقبون يراقبونك، ثم يقيمون هل هذا يتوافق مع فلسفتك التعليمية أم لا.. وبالعودة إلى سؤال: قضية كيف تكون المنظومة؟ من المفروض أنك كأستاذ أن تكون لديك فلسفتك التعليمية، وستكون ظلالها على الأهداف والوسائل وعلى البيداغوجية التي ستستخدمها، ثم يكون عندك فكر نقدي وفي العملية التعليمية أنت باحث ولست مُجرد مُلقن للمعلومة وبالتالي دوماً تطرح الأسئلة البحثية، ودوماً تطور العملية التعليمية.

- شمس الدين حميود: سؤال آخر مفاده ما مدى تأثير الارتجالية في التعامل مع المتربي بصفة عامة، وبالتحديد يقصد قلة مهارة وخبرة المُربي؟

- الدكتورة فلة لحمر: إن كثير من المهارات التربوية لم نتعلمها من الكتب، وإنما تعلمناها في بيئاتنا، ولكن نحن التربويون علينا أن نتحمل هذه المسؤولية، وأن نُراجع هذه النشأة مراجعة تقييمية، وأن يكون لدينا وعي بالذي أمارسه، وهل هو صحيح أم غير صحيح. ثم أتعلم، فأنا أمام مسؤولية أخلاقية، فهذا الإنسان الذي أمامي، ومستقبله وسعادته كفرد وفي الأمة، هي مسؤوليتي، وبالتالي علي أن أتعلم، فإذا صرت أما، أو أبا، أو مُعلما، أو في أي مكان يضعني في مقام المُربي، يكون علي أن أتعلم وسَأُسأل أمام الله سبحانه وتعالى، علينا أن نعرف تأثيرات هذا الشيئ في بيوتنا على الأطفال أو في جامعاتنا، فلو كان عندي أسلوب متسلط سأتسبب في حدوث تسرب لذلك، يجب أن يكون لدينا تفكير نقدي: لماذا أنا تصرفت بتلك الطريقة، ولماذا غضبت عندما قيل لي كذا وكذا..

 فالنقد ليس معناه أن أقول أن هذا الأمر سيئ، ولكن النقد هو أن أُقَيِّم بإنصاف ماله وما عليه، وبالتالي أقول الجانب الأخلاقي، والمسؤولية الأخلاقية تستدعي التعلم، وأخذ الأمر بجد وتفاعل مع المربين المختلفين، والاستفادة من الخبرات، ولكن الاستفادة النظرية فقط لن تُغير السلوك المدفون عندنا في التجارب واللاوعي، لذلك علينا نقد جميع التجارب التي مرت بنا، فبعضها يكون غير صالح، وإن لم ننقدها سنسقطها على غيرنا لذلك، قد تجد بعض المعلمين متعسفين جداً.

- شمس الدين حميود: بارك الله فيك دكتورة على جميل ما قدمتي، وجزاك الله عنا كل خير، أسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعكم وينفع بكم ويُديم هذا العطاء.