إن ثقافة العبودية قديمة وحديثة متجددة في نفس الوقت؛ قديمة بتطبيقها في الأزمنة الماضية وفي كل فترات التاريخ بِتغيراته وتقلباته وتنوع الحضارات والأمم المختلفة. وهي مفهوم شامل ومتداول في كل عصر وبما يتناسب مع ذلك العصر فقد أوجدت مثل هذه الثقافة فئات معينة من المجتمع، وولدت من رحم النخب الحاكمة، وتربت في أحضانها، سواء كانت هذه النخب سياسية أو دينية أو رأس مالية، والفئات القريبة منها كطَبقة النبلاء والأثرياء ومسؤولي الدولة، وتم نشرها في أوساط الطبقة المتوسطة والدنيا للمجتمعات، وقد سمح للكثير من النخب الحاكمة بممارسة الحكم المطلق وإطالة فترة الحكم لعقود بل لمئات السنين.

كما أن العبودية ثقافة حديثة من خلال مواكبتها الحداثة وتأقلمها مع كل عصر وكل حضارة، وبأساليب متناغمة فيما بينها لخلق البيئة التي تساعد على نشرها وترسيخها في الفئات المستهدفة من المجتمع.

إن ما يساعد بشكل كبير على نشر هذه الثقافة هو قلة الوعي والإدراك لدى فئات المجتمع، وأيضا دور الفئات المثقفة في الاندماج مع الأقلية الحاكمة، والاستخفاف بدور المجتمع، وغرس هذه الثقافة كنوع من الممارسة الشعبية للتعبير عن الرأي، واقتصار التصور السياسي والاجتماعي والعلمي والاقتصادي على هذا النوع من الثقافة، مما يؤدي إلى صناعة الاستبداد الشرعي، وأقول الاستبداد الشرعي لأنه اكتسب شرعيته من ثقافة العبودية التي تم نشرها وترسيخها في المجتمع مما جعل المجتمع يمجد ويقدس ويؤيد النخب لتحديد المصير وصناعة القرار، وأيضا لتسيير كل الشؤون الخاصة والعامة في المجتمع.

ويظهر التجدد في ثقافة العبودية كون المروجون لها يطورون من الوسائل التي من شأنها أن تقوي نشر هذه الثقافة، ويبتكرون طرق فريدة للمساعدة في ترسيخها، ويمَولون كل الأفكار التي تخدم هذه الثقافة في كل المجالات. 

فثقافة العبودية واسعة يمكن تطبيقها في كل المجالات الحياة، وإعداد الخطط لها لتلائم كل مجال، ولا يمكن الجزم بعدم فعاليتها، فهي واقع محتوم ومتواجدة في كل زمان ومكان، باختلاف حجمها وبعدها الاستراتيجي، ولها أنصار ومؤيدون ومعارضون قد لا يعترفون بهذا المصطلح، ولكنهم يمارسونه في الواقع، ويتَعايشون معه بأسماء مختلفة، كالتعَصب، وولاءات المصالح، والارتزاق وغيرها من المفاهيم التي تدل حصرا على هذه الثقافة.

رغم اطلاعي الواسع على الكثير من الكتب والمواضيع والمقالات، والكثير من المحاضرات والبرامج المختلفة، إلا أنني لم أجد تطبيق فعلي لهذا المصطلح إلا في الدول النامية، ويلي ذلك دول الشرق الأوسط، والدول الاشتراكية النظامية ثم دول الرأس مالية كأمريكا وأوروبا؛ أما أفريقيا فهي من الفئة الأولى التي لا زالت تعاني إلى الآن من هذه الثقافة، ولا زالت تطبقها كشيء أساسي لابد منه، مما جعلها عرضة للمطامع الخارجية، وأتاح ذلك استغلال أفريقيا وشعوبها وتوظيفهم بالوكالة لإعطاء جهدهم وثرواتهم لغيرهم بأبخس الأثمان، وبسبب النخب الحاكمة سواء كانت قبلية او سياسية أو عصابات وغيرها.

والحديث عن العبودية بالنسبة للشعوب العربية مجاله مفتوح لم يغلق بعد، ولا أظنه سيغلق، فهذه الثقافة كلما أراد التاريخ أن تندثر أعيدت بصبغة جديدة وبأيد جديدة وإن اختلفت المسميات؛ ليس هذا فحسب بل إن الإنسان العربي وإن كان في مناصب عليا سواء سياسية أو دينية أو غيرها، فإنه يتفاجأ بأنه مسلوب القرار، ما عدا القرارات الصغيرة والتي تعتبر خاصة وداخلية الى حد ما، وتَفسير ذلك كون الشعوب التي تعاني العنصرية مسلوبة القرار الذي يؤهلهم لصناعة الرأي الصحيح الخاص بهم وبمُجتمعاتهم واكتساب الحرية الكاملة التي منحهم الله إياها.

إن الوعي هو الذي يمَكِنُ الشعوب من التحرر، من خلاله يدرك الفرد والمجتمع حقيقة الثقافة التي مُرِرَتْ من خلالهم، رغما عنهم، مما جعلهم يتخلفون عن التقدم العلمي والحضاري والتكنولوجي، وليس هذا التخلف فحسب؛ بل إنه سلبهم القوة التي يستطيعون من خلالها أن يستعيدوا مكانتهم بين الأمم. 

ثقافة العبودية جلية وواضحة وأمثلتها متجذرة في القدم، وممتدة إلى عصرنا هذا، فهي من جعلت فرعون يدعي الألوهية، وقادت الشعوب إلى الاقتتال والتمزق من خلال التبعية العمياء باسم الحكم المطلق للنخب، وهي من جعلت للميادين صوت يمدح ويقدس من يزعمون أنهم قادة ثقافة العبودية، هي من جعلت هتلر قائد مطلق.. وهي من جعلت من المسؤول متسلط للأبد.. وهي من أتاحت المجال لكل أمراض المجتمعات من تقسيم إلى طبقات، ومن تعاطي الرشوة، ومن إبراز القوة للقرارات الفردية والسياسية، وتشريع الفساد باسم التجارة والمعاملات والمبادلات وتحسين الروابط والعلاقات.

ستجد دائما وفي كل بيئة تواجد المفهوم الذهني والواقعي لثقافة العبودية، ستجدها في الأسرة الواحدة بين الأبناء بعيدا عن الاحترام وصلة الرحم، ورأي الدين في المعاملة الأسرية.

 إلا أن هناك من يزرع ثقافة العبودية باسم الأكبر والأصغر، باسم الموظف وغير الموظف، الإبن والبنت أو المرأة والرجل أو الذكر والأنثى، بتفاوت واختلاف بين التعامل الاجتماعي والديني في مختلف الأسر، وهذا إن دل فإنما يدل على مفهوم الأحقية الخاصة أو العامة أو المطلقة في الحكم وهو يعبر وبشكل واضح عن ثقافة العبودية.

ستجد أيضا هذه الثقافة في أوساط النخب المتعلمة أو الأكاديمية، في المدارس والجامعات والإدارات الحكومية، حتى بين الطلاب والطالبات، فتكون المعاملات شبه عادية أو جافة إلى حد ما يعني غير رسمية وغير متصنعة، فإذا ما كان الفرد ذا مال أصبح الجميع يبَادلونه التحايا والزيارات والعبارات الحسنة، وعذب الكلام وصار له مكانة ورأي وحكمة وهلم جرا..!

وإذا أصبح مسؤولاً تجمع ذوي المسؤوليات من حوله، وأصحاب الوَجاهات، وحصل على الهدايا وجزيل الثناء، وسداد الرأي ومطلق الحريات ونال التأييد في القول والفعل، وحتى في توافه النكت والضحكات، فمن يسمعها منه يبادله القهقهات على سبب أو بدونه، لإنه أصبح عضوا لا إراديا في ثقافة العبودية دون أي اعتبارات.

ويكون الشكر والتصفيق على القول والفعل والنحنحة، وحتى السعال تجد له تصفيقا حارا كأعظم المنجزات، وإن كانت هناك إنجازات تتعدد الاهتمامات في الترويج والتلميع والصور في الشوارع والصحف والمجلات، فالأمر جلل، وكأنه تفضل على المجتمع بهذا وهو في الحقيقة مأمور من الشعب بتنفيذ مثل هذا ليس إلا.

والعكس نسجله عند الشعوب المتقدمة وبحسب الوعي لديهم تجد التغيير الوظيفي في المسؤوليات وتوزيع الأدوار في السياسات، والسعي الحثيث إلى تلبية الخدمات الضرورية للمجتمعات كحد أدنى وإيجاد بدائل وحلول للمشكلات العارضة، وتطوير ما يمكن تطوير خلال فترة تواجدهم في مناصبهم ومسؤولياتهم، ويتركون لهم أثرا، ويساعدون في تأهيل غيرهم، لأنهم يشعرون بأنهم مسؤولون عن مجتمعاتهم وكل ما يحدث فيها. وإذا دققنا في هذا الشعور نجده شعور فردي لكن جميع الأفراد لديهم نفس الشعور، مما يصنع شعورا جماعيا بالمسؤولية تجاه المجتمع، وتجاه أنفسهم وتجاه أجيال المستقبل لذا اختفت عندهم الكثير من المفاهيم كالتقْديس والتمجيد والحكم المطلق، وسنوا القوانين المناسبة وطبقوها في مجتمعاتهم، وعلى أنفسهم، حتى أن الفرد منهم لديهم دافع ذاتي "رجل مرور أو مراقب" فإذا ما ارتكب أي مخالفة لا يهدأ حتى ينال عقابه وإذا رأى مخالفة من أحدهم يؤنبه ضميره، حتى ينصح المخالف لإصلاح خطئه، يهتمون بالوعي والعلم أكثر من اهتمامهم بأي شيء آخر، لأن ذلك هو الوسيلة التي جعلتهم على ماهم عليه من النظام والوعي العلمي والحضاري.

الوعي المطلوب هو الوعي العلمي الحضاري وليس الوعي التبعي الذي يتكون بالوَلاءات والعصبيات، وإنما الوعي السليم المبني على أسس علمية اجتماعية تخدم الفرد والمجتمع، تدفعه إلى التحضر والتقدم والتطور وبكل السبل الممكنة والطرق المتاحة، للوصول إلى وعي شامل يكفل للمواطن وللمجتمع كل الحريات، ويحقق كل التطلعات بحسب القانون والقيود التي توضع لتسيير حياة الناس، من أجل مصلحة الجميع، وبدون التحيز لفئات معينة في المجتمع، وبدون عنصرية، وهذا ينْهِي مفهوم ثقافة العبودية التي كانت ولا زالت أحد أسباب التخلف الشامل.