إن إتباع رسولنا فيما أمر به أمر واجب، وهذا بنص الآية الكريمة في قوله تعالى (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) [سورة الحشر الآية: 7]، والرسول صلى الله عليه وسلم رسول كبقية الرسل لا يختلف عنهم في إنسانيته في شيء وهذا مصداقا لقوله تعالى (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) [سورة آل عمران الآية: 144]، في الآية الأولى حسن التأسي الواجب علينا إتيانه، وفي الآية الثانية التعظيم التقليدي واجب علينا الابتعاد عنه واجتنابه، وفي هذا الإطار كانت مداخلة الشيخ محمد الحسن ولد الددو الشنقيطي من موريتانيا في ملتقى ميلاد حضارة لنصرة المصطفى صلى الله عليه وسلم يوم الخميس 26 نوفمبر 2020.

3 مقتضيات للتصديق بالرسالة و4 حقوقٍ للنبي صلى الله عليه وسلم  

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على سيد الأولين والآخرين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:

 فإن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم هاديا إلى سبيله، وجعله أسوة صالحة للمؤمنين وأمر بالاقتداء به وأخذ ما آتى واجتناب ما نهى عنه وتحكيمه في الأمر كله فقد قال سبحانه وتعالى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [سورة الأنبياء الآية: 107]، وقال تعالى (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[سورة آل عمران الآية: 31]، (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) [سورة الحشر الآية: 7]، وقال تعالى (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [سورة النساء الآية: 65]، وقال تعالى (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [سورة الأحزاب الآية: 21]، ولذلك يلزم كل من آمن به وصدق برسالته أن يعلم أن مقتضيات هذا التصديق وهذه الشهادة ثلاثة وهي: 

  • أن يصدق في كل ما أخبر به.
  • أن يطاع في كل ما أمر به.
  • أن لا يعبد الله إلا بما جاء به. 
ومن ضرورات ذلك توقِيره وتقديره والإيمان به وتعزيره، فقد قال تعالى في ذلك (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) [سورة الفتح الآية: 9]، لكن بدأ أولا بالإيمان قبل ذلك.

لا يكون الإيمان إلا بالمعرفة والإتباع ولهذا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأنموذج الذي أخرجه الله للناس، فمن أراد رضوان الله سبحانه وتعالى فالسبيل إلى ذلك هو إتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الدافع العقدي الذي يدفع الإنسان للتضحية والبذل في سبيل الله في كل زمان ومكان.

فهذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم جعله الله أسوة للمسلمين والمؤمنين، وهو بشر مثلهم يمرض ويصح، ينام ويستيقظ، يقاتل ويسالم، وكل عوارض البشرية التي لا تنَفروليس فيها عيب هي جائزة في حقه، فالله اختار لهم بشرا مثلهم وكان قادرا أن ينزل عليهم ملكا، فأرسل الله لهم بشرا مثلهم.

فقد دعا إلى ذلك المشركون في الجاهلية لكن الله رد عليهم فقال (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَىٰ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا) [سورة الإسراء الآية: 94]، فأرسله الله بشرا متصفا بصفات البشر ليدلنا على أن ما أمرنا الله به بالإمكان أن يطبق وما نهانا عنه بالإمكان أن يجتنب، لأن هذا بشر مثلنا قد طبق ما أمره الله به واجتنب ما نهاه عنه، وهو قدوة وأسوة في كل ذلك، ومن هنا فإن طاعة الله سبحانه وتعالى أمر لا خيار فيه، وكذلك طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فقد قال الله تعالى (مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) [سورة الأحزاب الآية: 36].

  • حقه الأول فهو الإيمان به والتصديق. 
  • حقه الثاني هو الطاعة بكل ما أمر به. 
  • حقه الثالث هو الإتباع لما طبق وبلغ. 
  • حقه الرابع هو المحبة والتعظيم والإجلال.

فكثير من الناس يتجاوز ثلاثة حقوق ويقفز إلى الحق الرابع فقط، وهذا التعظيم والإجلال إذا خلا من معرفة واتباع، سيكون غلوا مذموما في الغالب، وفي كثير من الأحيان يكون أيضا جهالة به، فكثير من الناس من يصفوه بالصفات الإلهية، وهذا لا شك من المبالغات والإطراء الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإما أن يصفوه بما لم يتصف به صلى الله من الأحاديث الموضوعة والمكذوبة عليه، وذلك كله مناف لتعظيْمِه وإجلاله، فتعظِيمه وإجلاله تابع للإيمان به ولتصْديقه ولاتباعه.

كيف يتحقق الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وتصديقه؟ 

الإيمان به يقتضي معرفته، وهو أن تعرفه أنه رسول مرسل من عند الله، أرسله بالهدى ودين الحق بشيرا ونذيرا بين يدي الساعة، مصدقا لما بين يديه من الحق ومهيمنا عليه، ناسخا لكل ما سبق، مرسلا إلى الناس كافة بل إلى الإنس والجن كافة، فدعوته شاملة لكل من يأتي من بعده.

 دينه هو الدين المستمر الأبدي الذي يصلح لكل زمان ومكان، دينه دين شمولي يغطي كل حاجات الإنسان، فلا بد أن نطبقه في مجال السياسة والاقتصاد والاجتماع والتعليم والثقافة والعلاقات الديبلوماسية والأحوال الشخصية وفي مجالات شؤون الحياة كلها، فهذا الدين شامل مغطي لكل ذلك. 

فلا يمكن أن يرد بعضه على الله، فمن رد بعضه معناه أنه رده جميعا، ولذلك قال الله تعالى قال في اليهود (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [سورة البقرة الآية: 85].

ولا بد في الإيمان به أن نعلم أن الله الذي أرسله وخلقه، علم بكل الأطوار التي تمر علينا، ولكن يمكن أن يأتي وقت يقال فيه "لم يكن هذا الوقت مقصودا بالتشريع ولم يكن الله على علم به" أو أن تتجدد نازلة، أو أمر من الأمور في حياة الناس لم يكن الله على علم به، فالله لم يتجدد له علم بعد أن خلق الخلق، فهو خالق الخلق، وهو الرازق للرزق وهو العالم بالتفاصيل كلها إجمالا وتفصيلا، ولا يقع في خلقه إلا ما أراد، وقد كتب ذلك قبل خلقه، وعلمه سبحانه وتعالى علما دقيقا لا يمكن أن يقع فيه أي نقص ولا أي اختلال، فلذلك كل زمان وكل مكان وكل واقعة وكل نازلة لا بد أن يطبق فيها حكم الله الذي جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد خيار في ذلك، ولا أن يقول نحن الآن في واقعة جديدة، أو نحن أقليات، أو نحن أكثريات، أو نحن في زمان لا يمكن فيِه تطبيق ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يطبقه بين أصحابه في الجزيرة العربية، فكل هذا رد لبعض ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الإتباع لما أخبر به.. اتهم فهمك ولا تتهم النص! 

ثم بعد ذلك لا بد من تصديقه بكل ما أخبر به وإتباعه، فإذا صح لدينا أي خبر عنه فلا بد من تصديقه سواء فهمناه واسْتوعبناه، أو لم نستوعبه أم لم تدركه عقولنا، فلا بد أن نتهم عقولنا ولا نتهم قولا ورد إلينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. 

 فنحن نعلم أنه العلم كثير، وأن علم الله كبير، وأننا ما أوتينا من العلم إلا قليلا، وأن كثيرا مما يصل إلينا من العلوم إنما تأتي بالتدريج، أي تباعا فيكتشف أهل كل زمان من نواميس الكون ما لم يكن مكتشفا من قبلهم، ويطلعون على ما لم يكن اطلع عليه من سبقهم، وفي ذلك دائما يكتشفون صدق ما جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله، لأن الله قال (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) [سورة فصلت الآية: 53].

فلذلك إذا وجدت حديثا ووجدت أنه مناف للعلم أو مناف للعقل، فاتهم العلم والعقل في هذا الزمان، واعلم أن العلم والعقل لم يتوقف بعد، وأن بالإمكان أن يتجدد كثير من الاكتشافات، وأنها تكون موافقة لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أن فهمك أنت للنص أيضا ليس على وجهه الصحيح، فاتهم فهمك ولا تتهم النص. 

حَقيقة الإتساء.. ماذا سيعمل لو أنه صلى الله عليه وسلم خرج اليوم في البلد الذي أنت فيه؟

المقام الثالث هو أن يعبد الله بما شرع وأن يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجعل أسوة: وحقيقة ذلك أن كثير من الناس يظن أن الإِتساء والاقتداء إنما هو في السنن الظاهرة كتقْصير الثوب، وتوفير اللحية وغيرها، نعم هذه من السنن، لكن ليست هي كل الاقتداء والإِتساء.

بل الاقتداء والإِتساء حقيقة هو ما ذكر من الإيمان به وتصديقه بكل ما أخبر، وطاعته في كل ما أمر، الإِتساء به أن تتصور لو أنه خرج اليوم في البلد الذي أنت فيه ماذا سيعمل؟ وتبادر إليه ولا تتأخر عنه، فإذا تصورت أنه خرج في المدينة التي أنت فيها لنقل مثلا في مدينة غزة، ماذا سيعمل لو خرج اليوم؟ 

من المعلوم قطعا أنه لن يداهن الكفار والمشركين والمنافقين، ولن يتقدم بطلب تمويل، ولن يدخل مع الناس فيما هم فيه من جمع حطام الدنيا، لأنه لم يشتغل بذلك طيلة حياته، وقد عرفناه ثلاث وستين سنة، ولم يكن ذلك جل اهتمامه، ولا مبلغ علمه ولا ما كان يفكر فيه. 

ليس من المتوقع أن يغلق عليه غرفته ويأخذ سبحته ويعتزل الناس، فإنه لم يفعل ذلك لأن ذلك لا يغير شيئا من الواقع وهو رسول الله مرسول لتغيير هذا الواقع.

ماذا سيعمل لو خرج؟ لو خرج قطعا سيتصل بمن يثق به من الناس، ويدعوهم إلى ما جاء به من عند الله، ويربيهم تربية خاصة تخالف ما كان عليه المجتمع، وحينئذ سيُكاثر بهم، ويجاهد بهم المحتلين والغاصبين، وينصر بهم هذا الدين، وأولئك سَيحملون عنه هذا الدين ويوصِلونه إلى من سواهم فيكون كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا.

«لم يبع شيئًا ولم يقتل إلا رجلًا».. مسؤليتان عظيمتان يرثهما جيلٌ عن جيل!

وأهل كل جيل يورثون الجيل الذي بعدهم ما كان لديهم من علم وعمل وتربية وتزكية وأخلاقا ورحمة وبذلك يستمر هذا النهج، فإنه صلى الله عليه وسلم لما جاءنا بمسؤوليتَن عظيمتين هما:

عبادة الله سبحانه وتعالى

  فقد خلق الله الجن والإنس من أجلها فقال (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [سورة الذاريات الآية: 56]، وهذه هي القومة الأولى التي أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم. 

فأول ما أنزل إليه الأمر بالتعلم والتعليم (قْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)) [سورة العلق]، بعدها هذه القومة الأولى في قول الله تعالى (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا) [سورة المزمل الآية: من 1 إلى 6].

  فهذه قومة التعبد لا بد منها، ولا يمكن أن يكون الإنسان مجاهدا ولا أن يكون داعيا مؤثرا صادقا مع الناس حتى يصدق مع الله، وحتى يكون له حظه من التعبد بأداء كل الفرائض واجتناب كل المحرمات، وأداء ما تيسر من السنن والمندوبات واجتناب ما تيسر من المكروهات، وتحلية النفس بالأخلاق الكريمة والصفات الحميدة.

 فإذا تحقق له ذلك جاءت القومة الثانية..

القيام بالقسط والعدل في الأرض ونصرة هذا الدين 

وهي التي فرضت على النبي صلى الله عليه وسلم ثالث ما فرض في قول الله تعالى (ا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ)[سورة المدثر الآيات: من 1 إلى 7].

  فإنك لو درست 23 سنة من حياته صلى الله عليه وسلم لوجدت أن هذه القومتَين قاسمت حياته كلها، فليس في حياته وقت للهزل ولا للعب، لم يكن مشغولا بالتجارات والصفق في الأسواق، فلم نعلم قط أنه باع شيئا، كما لا أعرف أي حديث صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه باع شيئا، إنما كان يشتري حاجته وحاجة أصحابه وحاجة من يؤويهم، لكن البيع لم أعرف أنه باع شيئا، وقد تدبرت ذلك فعرفت أنه راجع إلى سخائه وجوده وكرمه في البيع عند رغبة الطرف الآخر في الشيء.

وكان إذا رغب أحدهم فيما لديه أعطاه إياه، فما سئل قط شيئا وقال لا، إن كان عنده أعطاه، وإلا رد بميسور من القول، وكان أكرم الناس ولذلك في حديث جابر رضي الله عنه قال "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم الناس على الناس، فما سئل شيئا قط وقال لا، فان كان عنده أعطى، وإلا رد بميسور من القول".

 وفي حديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة، وكان يدارسه القرآن في كل ليلة من ليالي رمضان، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة".

 وكذلك ما وجدته في القومة الثانية أنه طيلة هذه المدة من الجهاد والقتال لم يقتل أحدا في حياته بيده الشريفة سوى رجلا واحدا وهو أبي بن خلف الجمحي وذلك لشدة عداوته، والسبب لما فكرت فيه فوجدت أنه صلى الله عليه وسلم كان أرحم الناس بالناس، فهو ذو الرحمة والرأفة والشفقة والحرص على هداية الناس جميعا، ويعلم أن شر الناس من قتل نبيا أو قتله نبي.

فلذلك لا يريد للناس إلا دخول الجنة ولا يريد أن يموت أحد منهم عن الكفر ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ولهذا قال "إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارا حتى إذا أضاءت ما حوله جعل الفراش يتساقط فيها وهذه الدواب جعل ينفيهن بيده وهن يقتحمن فيقَعن فيها، ألا وانِي ممسك بحجزكم عن النار"  
  • فهو من أسرة معروفة بالشجاعة والقتال من سالف الزمان، وهو أيضا أشجع الناس كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه "كنا إذا لقينا العدو واتَقيناهم برسول الله" وقد عرف ذلك عنه في مشاهده كلها.
  • فهو الذي تقدم يوم حنين عندما انهزم اثنا عشرة ألفا من المؤمنين، ولم يبقى معه إلا مئة شخص فتقدم في وجوه العدو على بغلته الشهباء وهو يقول أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب، حتى رماهم بالتراب فدخل التراب أعينهم جميعا فانهزموا.
  • وهو الذي وقف في وجه ثلاثة آلاف مقاتل يوم أحد عندما هزم الناس ولم يبق معه إلا اثنا عشر ألف شخصا.
  •  وهو الذي وقف عندما أتاه دعثور فوجده نائما تحت شجرة وقد نام أصحابه حوله من شدة التعب، فاخترط سيفه ورفعه فوق رأسه وقال: "من يعصمك مني اليوم يا محمد فقال الله، فوقع السيف من يد دعثور، فرفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لدُعْثُورْ "من يعصمك مني اليوم يا دعثور" فقال " لا أحد" فقال له "لا تكن شر الآخذين يقصد يد السيف" فتركه رسول الله ولم يقتله.

فهذا رسول الله الذي هو أشجع الناس لم يكن حريصا على القتل، ولم يكن يباشر ذلك بيده الشريفة كما ذكرنا، ولم يقتل قط إلا رجلا واحدا وهو أبي بن خلف يوم أحد، وكانت قتلته ليس فيها تمثيل ولا قطع رأس، وإنما ظربة على أثر قوته، فكان ذلك سبب موته، والذي يعرف حياته صلى الله عليه وسلم لا بد أن يدرك أنه هو الأسوة وأن كل من رآه رغب عنه.

لو كنت الآن في المدينة.. هل تُبادر إليه صلى الله عليه وسلم؟ 

 فليتَصور كل منا أنه الآن موجود في المدينة التي وجد فيها ولم يبادر إليه، وإلى نصرته وإلى الاقتداء الاتساء به، من فعل هذا فقد رغب بنفسه عن رسول صلى الله عليه وسلم. 

وقد قال الله تعالى (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [سورة التوبة الآية: 120].

من هنا لا بد أن:

  •  نتعلم أولا كما أنزل عليه أولا (اقرأ باسم ربك خلق)[سورة العلق الآية: 1] 
  • ثم بعد ذلك لا بد أن نشتغل بمهمة العبادة التي أنزل الله بها. 
  • القومة الأولى (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلً)
  • ثم بعد ذلك علينا أن نشتغل بنصرة الدين والقيام بالقسط في الأرض، وفي ذلك القومة الثانية التي أنزل الله بها (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) )
  •  الاقتداء به والإِتساء به صلى الله عليه وسلم مقتض من الإنسان أن يجد له لنفسه برنامجا يوميا لحياته، أسلافنا الصالحون من أهل الحديث ألفوا لنا كتبا في عمل اليوم والليلة من الهدي النبوي في جانب التعبد 

فكيف كان رسول الله يفعل عند استيقاظه من النوم؟ كيف كان يستاك؟ كيف كان يتوضأ؟ كيف كان يصلي؟ كيف كان ذكره بعد الصلاة؟ ما هي الأذكار التي كان يذكرها؟ كيف كان ذهابه إلى المسجد؟ 

جمعوا لنا هدْيه وهكذا ذكروا لنا عمل اليوم والليلة، فجمعه النسائي وابن السني وكذلك أصحاب الأذكار وكثير من المؤلفين جمعوا لنا عمل اليوم والليلة من الهدي النبوي.

«في خمسة أركان».. كيف انتصر الرسول صلى الله عليه وسلم للإسلام وأقام دولته؟ 

ثم بعد ذلك الذين ذكروا جهاده وتربيته ودعوته وتبْليغه رسالة ربه، جمعوا لنا هدْيه ذلك في العمر كله، وتخطيطه المحكم وإِعماله لكل الوسائل، فقد رأيت أن عمله الجماعي لنصرة الدين، وإقامة الدولة كان مبنيا على خمسة أركان:

الركن الأول: الربانية

 فقد كان متصلا بالله في الأمر كله، متوكلا عليه معتمدا على الله في كل شؤون حياته، لا يعتمد على حوله ولا على قوته بل يبرئ إلى الله من حوله وقوته، ويعامل الله سبحانه بهذه المعاملة التي هي أداء حقه سبحانه وتعالى. 

الركن الثاني: التربية

فقد ربى أصحابه تربية استقاموا على أساسها، وكان يتعَهدهم، فيتَعهد قيامهم بالصف، وكان يقول "لتسون صفوفكم أو لا يخلفن الله بين وجوهكم" ويقول "ما لي أرى الشياطين خلال صفوفكم كأنهم غنم عفر، ويتعهد أخلاقهم، وكان يقول إنك امرئ فيك جاهلية فيقول "ما بال أقوام يفعلون كذا، ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، فيَتعهد سلوكهم، وأيضا حتى في أسواقهم يغشاهم ويعظهم يقول"من يشتري هذا" ذلك كله كان من تعهده لتربية أصحابه وقد رباهم هذه التربية العجيبة التي غيرت حياتهم بالكلية.

فلو نظرنا إلى حياة اثنين من الصحابة الكرام قبل هذه التربية وبعدها لوجدنا البون شاسعا جدا:

1.فالأول عثمان بن عفان رضي الله عنه

 كان من هذه الأسرة أسرة بني عبد شمس بني عبد مناف وهي أسرة معروفة بالتجارة وجمع المال، وهو كان قتل أبوه في التجارة وأسر هو وخلصه عبد الرحمن بن عوف من أسره بالجاهلية، لكن بعد هذه التربية أصبح عثمان أكرم الصحابة الكرام، جهز يوم العسرة ثلاثة آلاف أسرة برحالها ورَواحلها وسلاحها، واشترى بئر رومة فجعل دلوه فيها مع دلاء المسلمين،

وفعل من الجود والسخاء ما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا يضر عثمان ما فعل بعد اليوم"

2.والثاني هو علي بن طالب

 وهو من هذه الأمة الأمية التي لا تحسب ولا تكتب، بعد هذه التربية فمثلا في خلافة علي وقف على المنبر خطيبا فقال "الحمد لله الذي يجزي كل نفس بما تسعى، وإليه المآب والرجعى" فقال له رجل هالك عن زوجة وأبوين وابنتين فقال علي "صار ثمنها تُسعى واستمر في خطبته. بهذه السرعة اكتشف أن المسألة من أربعة وعشرين وأنها عادت إلى سبع وعشرين للبنتين ثُلثان، للأبوين السدسان، وللزوجة الثمن، وثمن ثلاثة ونسبتها من أربعة وعشرين هي الثمن، ولكن أصبحت من سبعة وعشرين، لحكم سوء العول، فأصبح تسعا، ثلاثة نسبتها من سبعة وعشرين، تسعة مخرجها من سبعة وعشرين، تسعة فلذلك قال ثُمنها تسعة" أنظروا إلى هذه التربية وأثرها فيهم جميعا تجدون العجب العجاب. 

الركن الثالث: الإخاء

فقد آخى بين أصحابه إخاء عجيبا وأخوة الدين قضت على أخوة النسب وقضت على كل العلاقات والتآلف السابق، فلم يعد العربي عصبيا قوميا، ولم يعد العجمي كذلك وإنما تآلفوا و انصهروا في بوتقة واحدة هي بوتقة الإيمان بالله ورسوله، والتصديق والجهاد في سبيل الله والدعوة إليه والعبادة والصدق، صهرهم جميعا على هذا المنحى ولذلك قال "أنه لا فضل لعربي على عجمي ولا لعربي على عجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح، الناس سواسية كأسنان المشط" رباهم على هذه الأخوة، آخى بين المهاجرين أنفسهم، آخى بين المهاجرين والأنصار حتى كانوا يتوارثون بذلك في صدر الإسلام فنَسخ ذلك بقول الله تعالى (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا) [سورة الأحزاب الآية: 6]، فالمعروف الذي أذن الله لهم به هو الوصية فكانوا يوصون لهم. 

الركن الرابع: الأخذ بالأسباب

فلم يترك أي سبب يؤدي إلى النصر إلا عمل به سواءً كان معروفا في الحضارة العربية كالقتال بالسيوف، والرماح والسهام وغير ذلك، أو بالكتابة حيث كتب إلى كل جبار يدعوهم للإسلام، أو كان مستوردا من حضارة أخرى كالخَندق من حضارة فارس وكالمِنبر من حضارة الحبشة وكالخَاتم من حضارة الروم.

الركن الخامس: التدرج والمرحلية

لم يقدم على أي مغامرة أو مخاطرة في حياته، عندما كان بمكة مكث ثلاثة عشرة سنة يدعو العرب إلى دين الله، ويخرج معهم كل المواسم ويعرض عليهم نفسه، ويصبر على آذاهم، ومع ذلك لم يكسر صنما قط، ولم يدبر محاولة اغتيال لأي قائد من قادته ولم يقتل أحدا منهم ، بل أنزل الله عليه قوله (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[سورة الجاثية الآية: 14].

فلما خرج إلى المدينة مهاجرا فبدأ الأعداد وبايع النصارى البيعة الثانية التي هي بيعة القتال في غزوة بدر، وقاتل وكلما ازداد عدد المقاتلين من أصحابه كلما ازداد الإنتاج، عندما بلغ عددهم ثلاثمائة وثلاثة عشرة ألف كانت غزوة بدر، وعندما وصلوا عشرة آلاف كان فتح مكة، وعندما بلغوا سبعين ألفا كانت غزوة تبوك، وهكذا دخل الناس في دين الله أفواجا، واستغل صلى الله عليه وسلم كل الوسائل الممكنة فاستعمل هذا التدرج لنصرة هذا الدين.

وهذا هو الاتساء به بين أيديكم، وهذه شخصيته، فليس شيء من شخصيته مجهولا، وليس شيء من عمله مبهما، وبإمكان كل إنسان أن يطلع عليه، ويدرسه ويتحقق منه بإسناده، ثم بعد ذلك ليس له الخيار إلا أن يعمل به ويبادر إليه.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم، من المصَدقين المتبعين وأن يأخذ بنواصينا ونواصيهم إلى الإتباع والإتساء برسول الله صلى الله عليه وسلم، ونسأل الله أن يحشرنا وإياكم تحت لوائه وأن يبعثنا وإياكم في زمرته، وأن يجعلنا وإياكم من ورثته وإخوانه وأنصار دينه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.