كانت للدكتور عادل رفوش من المغرب مداخلة بعنوان "البعثة المحمدية رسالة هداية للعالمين وتحرير لها من الوثنية" وذلك يوم 28 نوفمبر 2020 في ملتقى ميلاد حضارة لنصرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهذا نصها.

قال الله تبارك وتعالى في بعثته للنبي صلى الله عليه وسلم: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)[سورة الأنبياء الآية: 107]، وهذا هو موضوعنا في هذه المداخلة نسأل الله تبارك وتعالى أن تكون بركة علينا أجمعين.

الرسالة المحمدية رسالة خاتمة عنوانها الصلاح والإصلاح لهداية الناس 

قبل أن يبعث الله تعالى جل في عُلاه هذا النبي الكريم الذي كان نبيا وآدمياً بين الروح والجسد، كان في الجزيرة العربية عدد من الموحدين ممن لهم علاقة بالديانة الإبراهيمية ويعرفون من الكتاب العبراني ماشاء الله تبارك وتعالى أن يعرفوه، كما في حديث ورقة بن نوفل الذي كان يكتب الكتاب العبراني كما في صحيح البُخاري، وفي قصة نزول الوحي وذهاب أمنا خديجة رضي الله عنها برسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، فكان هو وغيره من المتألهين الموحدين ممن يعرفون علم الأولين ما فيه من بقية من ديانة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ولكن لماذا لم يكن لهؤلاء أثر في هذه البيئة العربية، ولماذا لم يكن لهم أثر في تنقية مكة المكرمة من ما انتشر فيها من الشرك والوثنية، ولماذا جِيئ برسول الله صلى الله عليه وسلم ختاماً، وبِعثة نهائية للبشرية؟

قال أهل العلم أن الذي كان في أولئك هو اقتصار على النفس ونوع من التأله الفردي، وهذا عند ربنا جل في عُلاه قاصر في مضمون رسالاَته إلى البشرية، فالرسالة الإلهية والرسالة الخاتمة أي المحمدية هي للصلاح والإصلاح، ومن أجل أن لا يكون الفساد في الأرض، فإذا كان المنتمي لهذه الرسالة والمنتمي لكلمة الله مقتصراً على نفسه دون النظر في إصلاح بقية مناحي الحياة، فإن هذا لا يُمثل حقيقة الرسالة الربانية، ولذلك جيئ برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبُعث لكي يُجسد هذا المعنى حق التجسيد ومن هنا حصل الخلاف بينه وبين أعداء البعثة وبين أعداء القرآن من المشركين وغيرهم، وكل من عادى محمد صلى الله عليه وسلم في أول رسالته إلى يومنا هذا، لأنه جاء بالرسالة الخاتمة الشاملة الكاملة، وإلا لو كان كغيره من أولئك المتألهين الموحدين المتعبدين المنزوين القاصرين المقتصرين على أنفسهم وأوراد خلواتهم لما صارعه أحدهم كما كان شأن ورقة وغيره من الذين كانوا في مكة، ولم يكن ليُكلمهم أحد لا أبو لهب ولا أبو جهل ولا غيرهم.

إذاً فعُنوان البعثة المحمدية هو الإصلاح الشامل والهداية العامة للخلق أجمعين، ولذلك يذكر أهل العلم بالقرآن في قضية أسباب النزول، ومعروف علم أسباب النزول الذي يعني بأسباب نزول هذه الآيات وتلك السورة ونحوها من الأشياء المعروفة في علم التفسير، فهذه الأسباب الجزئية التفصيلية.

ولكن السبب العام الأكبر، من نزول القرآن كله بمختلف سوره وآياته هو هداية الخلق للصلاح والإصلاح، ولذلك يقول الناظم: "والسبب الأكبر للنزول، هداية الخلق إلى الجميل"، وهذا هو السبب الأكبر قبل الأسباب الجزئية التفصيلية الواردة في القرآن العظيم.

البعثة المحمدية هداية للعالمين وتحريراً لها من الوثنية

هنا عندنا ثلاثة محاور:

  1. المحور الأول يتعلق بكون هذا القرآن جاء للعالمين وأن هذه البعثة المحمدية قد جاءت للعالمين.
  2. والمحور الثاني أنه لهدايتهم وليس لشئ آخر كما يُشوه أعداء هذه الرسالة.
  3. والأمر الثالث أجلى أو أظهر أنواع هذه الهداية وهي تحرير الإنسان.

وسنأخذ هذه المحاور الثلاثة كل محور في نحو أربع نقاط مختصرات نحاول أن نُلملم فيها شتات هذا الموضوع لنُبين عظمة البعثة المحمدية، ومدى حاجة البشرية إليها، ومن جميل ما يُذكر هنا أن بعض الباحثين في السيرة ذكروا نموذجاً من عظمة هذا النبي وبعثته وجهاده في إصلاح البشرية، وهو ما يُسمى عند بعضهم بالبعثة الفانية، تلك البعثة التي جاءت بعد حادثة الإسراء والمعراج، إذ عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم في السماوات العُلا، فرأى من آيات ربه الكبرى، وسمع صريف الأقلام ورأى اللوح المحفوظ وبلغ سدرة المنتهى (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ) [سورة النجم الآية: 11] فالذي يصل إلى ذلك النعيم العظيم وذلك العلم الكبير، ويراه رأي العين ويعيشه ويكون فيه بجسده وروحه وقلبه ثُم بعد ذلك يؤذن له فيقبل أن يرجع إلى أهل الأرض مرة أخرى.

هذه تضحية عُظمى لم يُعْهد مثلها في تاريخ البشرية، وهذه عظمة في الذات المُحمدية وهي فضل الله تبارك وتعالى عليه بها، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق أجمعين بإجماع أهل الإسلام قاطبة، ولم يُخالف في ذلك قول أحد يُعتد بقوله، فهذه البعثة الأولى والبعثة الثانية كلها تؤكد هدف رسول الله صلى الله عليه وسلم، والغاية الكبرى والأسمى من رسالته وبعثته وهي أن يهدي العالمين.

  • عالمية رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم بنص القرآن الكريم

فعالمِيته صلى الله عليه وسلم نص عليها القرآن الكريم في آيات متعددات من كتاب الله تبارك وتعالى في نحو قوله تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا)[سورة سبأ الآية: 28]، وقوله تبارك وتعالى (لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا)[سورة يس الآية: 70]، أي كل من هو حي على وجه البسيطة ممن كان حياً وممن سيحيى بعده، وكذلك قوله تبارك وتعالى (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ)[سورة التكوير الآية: 27]، وقوله تبارك وتعالى (نَذِيرًا لِلْبَشَرِ)[سورة المدثر الآية: 35]، وقوله تبارك وتعالى في فاتحة سورة الفرقان (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)[سورة الفرقان الآية: 1]، وقد قال الله جل في علاه (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)[سورة الأنبياء الآية: 107]، ونحوها من الآيات الدالات الواضحات في صريح لفظها، وأزيد منها مواضع واضحة في صريح معناها استنبط منها أهل العلم عموم رسالته صلى الله عليه وسلم للعالمين كافة، وأنها ليست خاصة بجنس ولا بقبائل العرب ومن يتكلم بلسان العرب كما أشاعه المستشرقين ومن شايعهم، وربما نُشير إلى تصغير شُبهتهم.

فمن أدلة ذلك أيضاً أن الله تبارك وتعالى في افتتاح تنزيل القرآن، لأن القرآن له افتتاحات كما سبق أن ذكرنا في البعثة المحمدية أنها بعثتان فنقول إن القرآن له أيضاً افتتاحات، فالإفْتتاح الأول وهو افتتاح نزوله وذلك إذ نزل بسورة العلق على قلب محمد صلى الله عليه وسلم في غار حراء، إذ قال له الله تبارك وتعالى (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) [سورة العلق الآية: 1]، ووجه الدلالة من هذه الآية على عالمية رسالته صلى الله عليه وسلم، أنه ربط بعثته بعموم خلقه سبحانه وتعالى، وعموم خلقه هو في كل مخلوقاته لا يُستثنى منه شئ، فربطه بعموم خلقه دليل على أن هذا المرسل هو أيضاً لعموم خلقه، وأما في سورة فاتحة الكتاب وهي أم الكتاب وفيها مُهمات المعاني التي عليها مدار رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وهذه البعثة المحمدية، فيقول الله تبارك وتعالى في فاتحتها: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [سورة الفاتحة الآية: 1].

فقال أهل العلم لما كان مقصد هذه البعثة هو التوجه بالخطاب لكل العالمين، ذَكرهم بوجوب حمده وفضل ربوبيته عليهم وأنه للعالمين، ومُقابله أيضاً أي من المثاني التي تُسميه في خاتمة القرآن، ختامه في سورة الناس (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) [سورة الناس الآية: 1]، فنجد أن القرآن في افتتاحه النزولي وافتتاحه الترتيلي الذي يتساوق مع ختامه الترتيلي، أنه يخاطب الناس أجمعين، وقد دلل على ذلك أيضاً أن أول أمر في كتاب الله تبارك وتعالى لم يأت خاصاً بصنف معين من الناس بوصف أو بجنس أو بقبيل، وإنما جاء عاماً لكل الناس، فقال الله تبارك وتعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ )[سورة البقرة الآية: 21]، فأول أمر في القرآن بأعظم شيء مأمور به وهو العبادة جاء بصريح العبارة يا أيها الناس، كما أن أعظم أمر في صريح الإباحة وهي الإذن بالاستفادة من كل ما سخر الله تبارك وتعالى للخليقة في هذه الأرض، جاء أيضاً بعبارة الناس مما يدل على عالمية الرسالة، وذلك في قوله تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا)[سورة البقرة الآية: 168].

فهذا أمر بالإباحة يدل أيضاً على أن هذا الخطاب وهذه البعثة عالمية، فنحن نلحظ أن أدلة القرآن لفظاً ومعنى صريحة في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعثته ورسالته وكتابه ليس خاصاً بصنف معين ممن يتكلموا بالعربية أو ممن هم في جزيرة العرب، وهذا خلاف ما يشيعه المستشرقون.

  • نزول القرآن بالعربية معجزة أخرى لرسالة المصطفى صلى الله عليه وسلم

وكون هذا القرآن نزل بالعربية هذا لأنه لا يمكن أن تختلط فيه الألسنة وإلا لصار تعمية بدل أن يكون بياناً وبلاغة، ومعظم الأجناس المعروفة في البشر قد أخذت حظها بإنزال الكتب وبعث الرُسل بألسنتها، فبقي العرب ما أتاهم من نذير من قبل كما هو صريح في كثير من آيات القرآن العظيم، فجاء هذا القرآن بلسان لم يأخذ حقه، ثم لشرف هذا اللسان وقدرته على استيعاب ما تحتمله الرسالة الخاتمة المصدقة المهيمنة، وهو أحد أوجه إعجاز القرآن الكريم إذ جاء باللغة العربية، فقبل كل اللغات وقبل كل الأجناس، فعليه لا يمكن أن يستدل أو يقال بأنه حتى في نعيمه وحتى فيما يذكر من تشبيهاته إنما يذكر ما هو دارج عند العرب من التشويق بالجنان والنخيل والغرس والحور العين ونحو ذلك، ربما أناس آخرون في مناطق أخرى وقت نزول الرسالة لا يهتمون له، هذا لا شك أنها شبهة متهافتة فإنما هذه الأمور هي لتقريب الأمثال، وأما لب الصورة فيُمكن أن يُنقل بمختلف الألسن، ولذلك ينص المربون في فقه الدعوة أن قضية مثلاً نعيم الجنة إنما ضرب الله مثلا بما هو دارج في اللسان العربي، وليس معناه أنك تقول حور عين لقبيل مثلاً أو لشخص يُحب أن لا تكون العين حوراء، فالكل يرجع في الأخير إلى المحكم الذي قال فيه الله تعالى (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ)[سورة الزخرف الآية: 71]، فتلك الأمور جاءت للتمثيل وإلا فالقَاعدة العامة النعيم بكل ما لذ وطاب لكل أحد بحسب رغبته وحسب سجيته وطبيعته.

إذا فلا حجة لهذه الشُبه في الطعن في عالمية رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن عندنا النصوص الصريحة لفظاً ومعنى على هذا المطلب الذي هو من مقاصد القرآن الكبرى أن نعلم أن هذه الرسالة قد جاءت عالمية، فماذا تقتضي منا هذه العالمية؟

أننا نحن لا يمكن كما نقول أن يكون عندنا ميلاد حضارة ونحن نعلم بأن الحضارة هي فكر له نتاج عملي ظاهر في الناس، وليست المدينة الفاضلة بحيث يبقى خيالاً، أو ليس فكراً مجرداً بحيث لا يكون له أثر، أو أثرٌ لا ينطلق من فكر مؤصل له ثوابت ومحددات بحيث يكون أيضاً مدنية جوفاء مجردة، فالحَضارة كما هو معروف لا بد أن يكون فيها من هذه الحيثيات، فإذا نحن حينما نقول عالمية الرسول صلى الله عليه وسلم وعالمية الرسالة نرجع إلى ميلاد الحضارة وبناء الحضارة، فكيف نتمثل هذه العالمية؟

من أول ما نتمثل به هذه العالمية أن لا نُفسر القرآن والشريعة بالطبائع والأعراف الخاصة، وهذا أمر في غاية الأهمية فإن هذا الأمر عند بعض الناس قد أدخل خللاً في التفقه وفي الدعوة إلى الله وأدخل صراعات متوهمة ومفتَعلة، وكان يمكن باستحضار عالمية الخطاب القرآني والنبوي أن نجد بأن هذه الأمور التي ترجع إلى بعض عادات الناس وميولاتهم المباحة ونحو ذلك مما لا تعارضه الشريعة، فضلاً عن أن تقول بتحريمه أو الوعيد عليه ونحو ذلك. عالمية رسول الله صلى الله عليه وسلم تقتضي من أهله أن يكونوا عالميين في ولائهم وخطابهم، وقد مثل فضيلة الشيخ الدكتور جاسم بقوله عالميين في انتصارهم للقضايا العادلة، فليس معناه أنني أنتصر للمظلوم فقط إن كان من ديني ومن طائفتي. 

لأن البعثة المحمدية علمتني أن مبدأ العدالة لا يتجزأ وأن العدل ينبغي أن يكون مطلباً لنا لنصرة أي مظلوم حيثما كان، ولذلك القرآن طافحٌ بنصرة المظلومين من غير دين الإسلام، ومن أشهر ذلك آية سورة النساء التي نزلت في نصرة يهودي ليس من المسلمين، إذاً فالتَمثل لهذه العالمية ينبغي أن يكون عملياً وليس مجرد أدلة من القرآن أو غيره.

ومن شواهد هذه العالمية أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أنها من مميزاته عن بقية الرسل فقال صلى الله عليه وسلم: كان النبي يُبعث في قومه خاصة وبُعثت في الناس عامة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: الأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مما نزل عليه قول الله تبارك وتعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ)[سورة آل عمران الآية: 96]، فهذه شعيرة من شعائره وهي الحج والمشاعر المقدسة بين أن الله تبارك وتعالى خاطب بوجوب الإلتزام بها، فدل أن رسالته في أصولها وفروعها هي خطاب للعالمين، ومن شواهد ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يراسل ملوك الأرض للتبليغ بدينه والدعوة وإلى الدخول فيه، ومن شواهد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بشر بانتشار هذا الدين وأنه سيبلغ ما بلغ الليل والنهار وأن الله تبارك وتعالى مُتم هذا الدين حتى لا يترك بيت ولا حجر ولا مدر إلا دخله بعز عزيز أو بذل ذليل، قال الله تبارك وتعالى (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا)[سورة الفتح الآية: 28]، إذاً هذا المحور الأول من أن البعثة المحمدية جاءت عالمية، فلماذا جاءت عالمية ولماذا خاطبت العالمين، هل هذه الرسالة جاءت لتسلبهم أموالهم أو تزاحمهم في ثرواتهم وأراضيهم أو لتغتصب حقوقهم وتسفك دمائهم وتحاربهم وتقاتلهم؟ كما يُشيع أولئك الذين يُريدون تشويه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلصاق خُلق الإرهاب الذي هم فيه وحاشاه صلى الله عليه وسلم.

إقرار الشريعة وتشجيعها لكل ما ييسر سبل الهداية

تُبين لنا هذه الرسالة أنها ما جاءت إلا هداية للناس، بمعنى أن أي شئ فيه هداية البشرية وليس فيه مفسدة على أحد فالأصل فيه أن الشريعة تقره وتُشجعه عليه، سواء جاء فيه نص أو لا، وهذه قاعدة عظيمة من قواعد الأصول وقواعد الفقه والمقاصد والسياسة الشرعية، أن هذا الدين جاء للعدل والصلاح والإصلاح من حيث هو، فحيثما وجد العدل فشرع الله ثَم كما قال ابن القيم وغيره من العلماء، إذا هو جاء من أجل هداية الناس ولذلك قال كثير من أهل العلم في قوله تبارك وتعالى (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)[سورة هود الآية: 117]، قال أهل العلم بأن الظلم هنا هو الشرك كما في آية لقمان، بمعنى أن الله عز وجل رفع المؤاخذة بالشرك الذي هو أعظم الذنوب على الإطلاق وأن الله لا يغفر أن يُشرك به، ومع ذلك فإن المؤاخذة به في الدنيا يؤجلها إلى الآخرة بشرط واحد وهو أن يكون أهلها مصلحون، ومعنى أنهم مصلحون أنهم عادلون فيما بينهم قائمون بمصالحهم فيما بينهم لا يظلمون بعضهم ينفعون بعضهم يُسدون المعروف فيما بينهم، لا تجد بينهم مظلوما ولا مُنتهكاً ولا محتقراً لا في حقوقه الخاصة أو العامة، المعنوية والمادية وأنهم يسعون في عمران الأرض. وأنتم تعلمون أن مقاصد القرآن الكبرى ثلاثة وهي: الإنسان والرحمن والعمران، فإذا كانوا يُصلحون العمران فإن الله تبارك وتعالى يؤخر المؤاخذة على حقه الذي هو توحيده سبحانه وتعالى وعدم الكفر به إلى يوم القيامة إقراراً منه تبارك وتعالى بأن هذه الدنيا أرادها الله تبارك وتعالى لهداية الناس فقال الله تبارك وتعالى في الآية السابقة وأهلها مصلحون أن ينفع بعضهم بعضا، فإذاً هذه الشريعة إذا كان هذا ثناؤها على من كفروا بها أنها تعتبر ما فيهم من خير وإصلاح وعدالة فكيف بأهلها أن لا يتبنوا هذا الأمر ويسعون بالهداية إلى الناس أجمعين.

الله سبحانه وتعالى منذ أنزل آدم إلى الأرض توعده بأن يُنزل معه الهدى، لأن الإنسان عندما نزل إلى الدنيا نزل إلى دار الابتلاء، ومن حكمة الله البالغة أنه أرسل المرسلين مبشرين حتى لا يبقى لأحدهم حجة.

يا رب أنزلتني في دار الابتلاء فكيف أهتدي وكيف أختار؟ فأرسل الله سبحانه وتعالى الرسل بالهداية لأنها من تمام الحكمة حتى لا تكون لأحد يوم القيامة على الله حجة، بل لله الحجة البالغة ولذلك كانت التوراة كما امتن الله سبحانه وتعالى على موسى فيها بأن فيها هدى نور، وامتن على عيسى بالإنجيل "وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور"، فكيف بالقرآن والبعثة المحمدية الخاتمة ولذلك قال الله تبارك وتعالى في وصف القرآن هدى للناس وقال الله تبارك وتعالى: (إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)[سورة الإسراء الآية: 9]، أي يهدي للتي هي أقوم وأكمل وأقسط وأحسن للناس أجمعين، وقال في فاتحة سورة البقرة هدى للمتقين، والمتقين هنا يُمكن أن تُفسر بمعنى آخر، أي ممن يحسنون استخدام عقولهم في اتقاء الشرور في العاجل والآجل حتى وإن كانوا من غير المسلمين، فإن كانوا على هذه العقول الراجحة فسَيجدون في القرآن هداية، ويوشك من سمعوه ممن يُحسن خطابهم به أن يُسْلموا عاجلاً غير آجل، وهذا من أسرار التعبير عن الشريعة باسم التجارة، فقال الله تبارك وتعالى (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم)[سورة الصف الآية: 10]، فقال أهل العلم سماها تجارة إراشداً لهم أن يعملوا في هذه الشريعة عقولهم، كما يُعملونها في التجارة التي مبناها على الربح والخسارة، والمصلحة والمفسدة، فإذا فعلوا ذلك في هذه الشريعة كما يفعلونه في التجارة، فسيترجح لهم أنها واجبة الاتباع وسيدخلون في دين الله أفواجا وما ذلك إلا لأنها جائت هداية. فما هي أوجه الهداية بهذه الرسالة؟

  • الوجه الأول من هدايتها أن الله تبارك وتعالى حض على العلم والمعرفة: والكلام في هذا الباب طويل جداً وكثير، فالقرآن كتاب علم فما من آية إلا وفيها مدح للعلم أو ثناء على أهله وإرشاد على استخدامه من أول القرآن إلى آخره، فالإرشَاد إلى العلم والمعرفة دليل على أن هذه الرسالة للهداية، لأن الجاهل لا يُمكن أن يهتدي فالهداية تكون بالعلم والمعرفة، وبضبط مناهج التفكير والعمل، ولذلك جاءت هذه الشريعة بذم الجهل والتقليد والإرشاد للعلم.
  • الأمر الثاني هو حمله البشارة للمصلحين.
  • والأمر الثالث شموله كل مجالات الحياة: قال الله تبارك وتعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ)[سورة النحل الآية: 98].
  • والأمر الرابع من هدايته هو أنه نزل بالحق للحق: قال الله تبارك وتعالى(وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ۗ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) [سورة الإسراء الآية: 105].
كيف حارب الرسول صلى الله عليه وسلم للوثنية بمختلف أشكالها؟

أما المحور الأخير هو محاربته صلى الله عليه وسلم ببعثته للوثنية وتحرير الإنسان منها، وهذا الباب أيضاً جلي في الشريعة ولكني أركز على نقاط في أنواع الوثنية التي حررت الشريعة الإسلامية أو البعثة المحمدية الإنسان منها:

الأمر الأول هو الوثنية الفكرية: وهي عبادة الهوى، قال الله تبارك وتعالى: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه)، وقال الله تبارك وتعالى: (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس)، فالشريعة جاءت بمحاربة الهوى لأنه نقيض العلم والمعرفة وإذا اتخذ المرء إلهه هواه جلعه وثنٌ يُعبد من دون الله ولكن لا شك أنه لن يستقيم على أمر الله فجاءت الشريعة لتحريره من هذه الوثنية.

الوثنية الثانية هي الوثنية الشعائرية: وهي التي تتعلق بالأَنداد وبالعبَادات العملية ونحوها وهي التي قال الله تبارك وتعالى فيها: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يُحبونهم كحب الله)، فهذه أيضاً جاء النبي صلى الله عليه وسلم والأدلة على إبطالها وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذمهم في قصة ذات أنواط حين قال: والله ما قلتم إلا كما قال أصحاب موسى لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، وهذه أيضاً الأدلة فيها كثيرة.

الوثنية الثالثة هي الوثنية النفسية: وهي التي تتعلق بالشهوات، قال الله تبارك وتعالى (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ)[سورة آل عمران الآية: 14]، وقال صلى الله عليه وسلم (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة تعس وانتكس) فهذه أيضاً مما حاربه النبي صلى الله عليه وسلم.

الوثنية الرابعة هي الوثنية السياسية والتي أسميها عبادة السادات: قال الله تعالى (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا)[سورة الأحزاب الآية: 67]، وقال الله تبارك وتعالى عن رأسهم (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ)[سورة غافر الآية: 29]، فقد جاءت البعثة المحمدية لتحرير البشر من أهل الاستبداد وأهل الطغيان وأهل الظلم الذين يُريدون أن يستعبدوا الناس، "فمتى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا"، وهذه من جُمل أمهات بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم عالمية وهداية وتحريراً للإنسانية من الوثنية.