في إحدى الجلسات الفكرية مع الأصدقاء والتي كانت تدور حول المُبالغة في تقبل الآخر وصورها المُنتشرة والمتنوعة في هذا العصر وخاصة بين الشباب حيث أنها أصبحت ظاهرة ومظهرا من مظاهر التحضر، أذكر جيداً وقتها عندما قالت صديقتي أن المُبالغة في تقبل الآخر قد تمتد بنا إلى تقبل المسيح الدجال عند قدومه فنجد من يُدافع عنه ويقول ليس علينا أن نرفضه لمجرد أن لديه عين واحدة، فهذه عنصرية وإنما علينا أن نتقبله ونحتويه ونأخذ ما لديه ونعطيه ما عندنا فما هو إلا واحد منا مُسخت عينه.

ما هو الآخر؟

بالحديث عن الآخر وكيفية التعامل معه وحدود تقبله نجد أننا بصدد تعريف الآخر وماهيته أولاً، إن الآخر له صور كثيرة وهيئات متعددة؛ فهو ليس بالضرورة شخصا، فقد يكون حوارا داخليا أو فكرة أو ثقافة أو موضة أو دولة وحتى يُمكن أن يكون كتابا، باختصار: الآخر هو كل ما يُمكن أن يحتمل أفكاراً أو مبادئا وقيما غير التي تؤمن بها أو على أقل تقدير غير المُقتنع بها.

تقبل الآخر: بين المبالغة والرفض

أهمية وضرورة تقبل الآخر تُمثل مُشكلة متفاوتة في أبعادها من مُبالغة في التقبل إلى الرفض التام للآخر ولكننا بصدد موجة عالية جداً من الانفتاح تدعو للمبالغة في التقبل وتتغافل عن الوسطية والاتزان وتحكيم المبادئ. 

هذه المشكلة نلمحها أكثر لدى الأطفال والشباب في فترة المراهقة حيث نجد الغالب في هذه الفترة العمرية هو صعوبة تقبل الآخر أياً كانت صورته؛ ومدى التقبل في هذه الفترة هو انعكاس لنوع التربية التي تلقاها الطفل أو المُراهق ونوعية الأفكار التي كانت تحتويها هذه التربية، ولكن بصورة عامة لأن الطفل يكون قد اعتاد أسلوب حياة مُعين ونهج مُحدد في التفكير والتحليل وفي الغالب يكون قد تحصل على نطاق محصور من صور الآخر واحتمالاته فنجد أنه ومع اصطدامه بحجم الواقع وضخامته يجد صعوبة في تقبل الأشخاص الآخرين الذين يحملون أهدافا غير أهدافه وطموحات غير طموحاته وعادات وتقاليد غير تقاليده وإلى آخره من الأشياء التي يُمكن أن تكون مصدر تباين أو اختلاف بينهما.

وفي سبيل حل هذه الإشكالية، كان التبشير بضرورة تقبل الآخر فكانت الأفكار والدروس والمحاضرات والكُتب التي توضح الفروق بين الأنا والآخر وتوضح كيفية وضرورة تقبله بدايةً بتقبل ما يُمكن تقبله ورفض ما لا يصلح ثم الانتقال إلى مرحلة تقبله على ما هو عليه إنتهاء بمرحلة المُبالغة في تقبله، بدأت هذه الأفكار المُنادية بتقبل الآخر تُبث على جميع الأصعدة من وسائل تواصل اجتماعي وتلفاز ودراسات علمية وبحوث وكُتب وأفكار تتطور في المُجتمعات حول ضرورة تقبل الآخر والوصول لمرحلة الصُلح الذاتي والسلام الداخلي المُتمثل في تقبل الآخر والإيمان بأن الأنا دائماً مُختلفة عن الآخر؛ ليس بالضرورة اختلافاً جوهرياً ولكن دائماً هنالك اختلاف. عندما بدأت هذه الأفكار بالانتشار كانت مُفيدة جداً حيث أنها قامت بإعطاء كل ذي حق حقه وهمت بإلغاء بوادر العنصرية على مُختلف الأصعدة والمجالات كما أنها سهلت على الأفراد والمجتمعات التعامل مع الأفراد الآخرين والمُجتمعات الأخرى وزادت من فُرص التفاهم بين صور الحياة المُختلفة وساهمت في الانصهار الحضاري بين المُجتمعات المُختلفة وسهلت من عملية التداول المعرفي والثقافي.

ولكن سرعان ما أصبحت هذه الفكرة سامة وانتقلت إلى صورتها السائلة حيث أصبح من الصعوبة ضبطها وإرساء قواعد لتقبل الآخر أو رسم الحدود التي يجب أن ينتهي عندها التقبل، عندها أصبح كل آخر مُتقبلا مهما كانت بشاعته ومهما كان تأثيره سُمياً على الفرد والمُجتمع أضحى من الواجب تقبله والأسرع في تقبله هو الأكثر تحضراً والأعلى ثقافة ومن يطول رفضه هو الأكثر تخلفاً ورجعية.

المُبالغة في تقبل الآخر تُذيب المبادئ والحدود

منذ الأساس كان التصنيف إلى الأنا والآخر مستنداً إلى الحدود والمبادئ الفاصلة بين الإثنين حيث أنه كانت هناك نقطة توازي تحول دون اجتماع الإثنين، لذلك جاء الفصل بينهما وتسميتهما بالأنا والآخر، وهذه الحدود والمبادئ قد تكون دينية أو ثقافية أو فكرية أو حتى عادات وتقاليد وهي أضعفها، ولكن المُبالغة في تقبل الآخر تُذيب هذه الحدود وقد تؤدي إلى إلغاء هوية الأفراد والمجتمعات.

أنا والآخر من الناحية الدينية

إن الدين عند الله الإسلام ولكن جعل لكل منا شرعة ومنهاجاً نتبعه وهذه الشريعة وهذا النهج كانت هي الحدود الفاصلة بين كل نبي وقومه مما يضعهم في قالب الأنا والآخر. أساس الدين عند الله وفي كل الشرائع هو الإسلام أي الاستسلام بالطاعة والعبادة والانقياد لله سبحانه وتعالى، فكل الديانات في أصلها ومن قبل التحريف كانت تقوم على عبادة الله وطاعته والتقرب له ولكن عندما جاء الإسلام ونزل القرآن على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان هو الدين الفاصل بين العبد وبين الجنة والنار هو الشهادة التي تخولك خوض امتحان الدنيا والخضوع لحساب الآخرة، إذاً بعد الإسلام لا دين يُقبل ولا عمل يُحتسب ما لم يكن تحت لواء الإسلام وإن هو إلا سرابٌ يحسبه الظمآن ماء.

وفي مسألة تقبل الآخر وضح لنا الإسلام وشرعنا القويم - الذي لم تغب عنه غائبة - حدود التعامل مع الآخر وحدود تقبله ومواضع تقبله، ولكن موجات تقبل الآخر لم تدع الدين لشرعه ولكن أيضاً تدخلت للتعديل وإسالة هذه الحدود وحاشا لله أن يُمس شرعه بتعديل وإنما شُبه للعباد واختلط عليهم الأمر، فأصبح من العادي أو من الرُقي مُعايدة اليهود والنصارى في أعيادهم ومن الأخوة الاحتفال معهم وإظهار العجب والفرح بمحافلهم وأصبح من الثقافة زيارة دُورهم وأماكن عبادتهم بل وبلغ الحد بالتذلل لهم بإقامتها لهم والدأب على صيناتها فنرى من صور التآخي بين المُسلمين والمسيحيين قيام الحملات التطوعية لصيانة الكنيسة الفلانية وجميع المتطوعين مُسلمون يُظهرون حسن النية ويُبالغون في التقبل، هذا وإن لم يكن جهلاً ـ ومن الأفضل أن يكون من باب الجهل ـ فإنه تحد وعصيان لأوامر الله والاستخفاف بها ووضعها بمكان العنصرية والرجعية.

كما أن المُبالغة في تقبل الآخر قد ألغت ملمح الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر الذي نمتاز به ويُحملنا مسئولية بعضنا ويُشعرنا بالانتماء وأن ما يفعله فلان من مسؤوليتي التأكيد على صحته أو تصحيح ما هو خاطئ فيه.

ولكن جاءت دعاوى التقبل باسم الحرية الشخصية لتُحرم الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر وكان الرُقي والتحضر والثقافة والتعلم في ترك كل من هب ودب ليفعل ما يفعل بل ولتكون نجماً يلمع في سماء المُثل والقدوات المُضللة ما عليك إلا أن تدعم وتشجع كل ما هو جديد وتُبالغ في تزيينه، فتشجع من هي غير مُقتنعة بالحجاب وتُهنئ من قام برسم وشم جديد وتدعم من يُنادي بتحرر الأبناء من سلطة الآباء وإلى ما لا نهاية من الأفعال المُنكرة علينا والتي يفرضها علينا التقبل وما لم نتقبله فهو حرية شخصية لا يسعنا كبتها فأصبح الأمر بالمعروف ليس من صلاحياتنا والنهي عن المنكر من التطاول على حُريات الآخرين.

أنا والآخر من الناحية الثقافية

أما من النواحي الثقافية فحدث ولا حرج فقد بلغ ذوبان هذه المبادئ إلى الحد الذي قد يلتغي معه مُسمى الأنا والآخر، حيث أن ذلك أدى إلى غياب الثقافة الإسلامية وانحطاط الثقافة العربية واندثار جميع أُسس التباين والتمايز بين الأنا والآخر على هذا الصعيد، فأصبحت ثقافة الآخر أياً كانت ثقافته ثقافتي وعاداته هي عاداتي إن كانت سليمة أو مُختلة لا يُهم المُهم هو أنني أتقبلها، وبل أصبح بالنسبة لنا كمسلمين قراءة الأنجيل ثقافة سائدة والله أعلم أيُ إنجيل هو ولكن بما أنني مُسلم مُنفتح علي أن أكون مُثقفاً وأن أتعلم دين أصدقائي وإخوتي المسيحيين وأقرأ أكثر عبادة الأصنام حتى لا يشعر إخوتي ممن يُدينون بهذا الدين أنني أهلمهم ولا أهتم بتعاليم دينهم وقد يكون هذا الفرد أبسط حقوقه تجاه دينه لا يؤديها.

في كتاب إشكالية الأنا والآخر للكاتبة ماجدة حمود والذي هو عبارة عن نماذج روائية عربية أخذتها الكاتبة بالتحليل ودراسة موقف الأنا من الآخر وموقف الآخر من الأنا في هذه الروايات مع اختلاف الآخر وكون الأنا عربية، إحدى هذه الروايات التي قامت الكاتبة بدراستها هي رواية اليهودي الحالي للمؤلف علي المقري؛ تقوم هذه الرواية على علاقة حب تتطور لتُصبح علاقة زواج بين فتاة مُسلمة وشاب يهودي؛ والصادم في الأمر ليس اختلاف الدين بينهما وإنما دعوى التقبل لهذا الأمر بل ودعمه وتشجعيه من قِبل مؤلف الرواية ومن قِبل الكاتبة التي قامت بتحليل الرواية، فنجدهما يُظهران الفتاة بمظهر الفتاة الشجاعة التي حاربت التخلف والعادات والتقاليد وانسلخت عن الخنوع والاضطهاد الذي يُمارس على الفتاة وقامت هي بالمبادرة للزواج من هذا الفتى اليهودي.

ومن منطلق أنها رواية قد لا يُلقى لها بال وأنها من وحي الخيال البحت ولكنها تبث رسائل يوماً بعد يوم تتحول إلى واقعنا وتتجسد فيه وتدعو إلى تشجيع مثل هذه الظواهر ودعمها للخروج عن المألوف وغض الطرف عن كل اعتبار آخر سواء ديني أو عقدي وما إلى ذلك، كل ما يُهم هو كيف أتمادى في تقبلي للآخر.

من صور المُبالغة في تقبل الآخر

هناك الكثير من صور المُبالغة في تقبل الآخر السائدة في يومنا هذا وتكاد تكون لا حصر لها، ولكن من أبرز هذه الصور هي تقبل أمر التطبيع مع إسرائيل والنظر له على أنه ضرورة سياسية أو اقتصادية أو أياً كانت الرؤية ودعوة القادة والزعماء وبعض الشعوب للانفتاح على إسرائيل وتنوع وسائل التواصل بينها وزيادة فرص التعامل أكثر مما تُبيحه الضرورة.

من مظاهر المبالغة في تقبل الآخر أيضاً الدعوة لتقبل الشذوذ الجنسي وظواهر البيدوفيليا واعتبارها من الحريات الشخصية التي يجب كفالتها وإكرام كل فرد بضمان حقه بممارسة شذوذه الفكري والعقدي على الملأ بل وجعلهم من الفئات الحساسة المُرهفة القابلة للخدش والكسر، لذلك يجب أن لا تُهضم حقوقهم وكفالتها ورفع أعلامهم في الماراثونات والمهرجانات وتنظيم المواكب لهم ونتجه إلى تخصيص اليوم العالمي للشذوذ الجنسي والعياذ بالله. ومن صور المُبالغة في تقبل الآخر التي نلتمسها داخل مُجتمعاتنا المُسلمة هي ظواهر التنصل عن المبادئ والتعاليم والمُوجهات الدينية والتي لم تعد ظواهر بل أصبحت عادات فيما يتعلق باللباس مثلاً، فملبس المُسلم سواء الرجل أو المرأة معروف وبالطبع لم يفت الشرع تفصيله لنا من ملبس ساتر أو حجاب في جميع المواقف والمناسبات المختلفة ولكن أصبح من العادي جداً تقبل رغبة الفتاة في نزع الحجاب واعتباره حرية شخصية، بل لو أنك أبديت تعليقاً وقلت أن الفتاة يجب أن تتحجب فأنت متخلف وبالتأكيد الأشخاص من نوعك هم السبب في تخلف وتراجع الدُول العربية؛ كذلك مسألة الاختلاط بين الجنسين والخلوات التي أصبحت مُباحة وعادية إلى أقصى الحدود.

فكل هذه الأمور وغيرها الكثير من مظاهر المُبالغة في تقبل الآخر وبعض مما قد ينتج هذه الظاهرة وما يؤدي إليها، لذلك يجب الاستيقاظ على وقعها والتحقيق أكثر بشأنها وإعادة رسم الحدود الفاصلة بين كل أنا وآخر والاعتزاز بالمكتسبات الإسلامية وعدم الخضوع للشُبهات المُعاصرة والمُبالغة في تقبلها.