إن مفهوم العلم من المفاهيم الرئيسة في البحوث والدراسات المعاصرة؛ وخاصة مع الجدل المستمر في حصر مفهوم العلم في علوم الطبيعة وما نشأ عنها وعن نموذجها، أو ما يمكن تسميته بالجانب التجريبي في العلم.

وهذا يدفعنا إلى ملاحظة ذلك الاستبعاد من وصف العلمية لمجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية والشرعية (الدينية)، باعتبار أن معظمها لا يخضع للتجربة والدراسة (الامبيريقية)، باعتبار أن مقياس العلمية صار منذ العصور الحديثة هو معيار العلم التجريبي. 

مع العلم أن هذا التضييق لمفهوم العلم، وهذا الاستبعاد لمجالات علمية كثيرة من وصف العلمية بسبب عدم خضوعها للتجربة، إن هذا كله منتج ثقافي نتج في سياق تطور تاريخي وحضاري وخبرة غربية أوروبية تحاول أن تعمم نموذجها على العالم، وتختزل مفهوم العلم في تضييقاتها الفلسفية والفكرية وتجربتها الحضارية الخاصة.

لكن بفعل الإشعاع العالمي للحضارة الغربية فقد أدخلتنا في صندوقها وصرنا نفكر من داخلها؛ سواء ضمن ما أضافته للحضارة والمعرفة الإنسانية من قيمة إيجابية أو ما جبلت عليه من فوضاها وإخفاقاتها واختزالاتها.

ولعل هذا نلاحظه في جامعاتنا ومناهجنا ومؤسساتنا ولدى صناع المعرفة والقرار عندنا. فقد سادت نظرة قاصرة للعلوم الإنسانية والاجتماعية والعلوم الشرعية، وصار يتبناها كثير من قادة الأمة في عالمنا الإسلامي، بفعل الهوس بالتحديث التكنولوجي والتقني، ومركزية العقلية العلمية بمعناها التقني. فصار كثير من القادة والسياسيين وأصحاب القرار في مستويات مختلفة يرون أن مشكلتنا تقنية بحتة، ولهذا ينبغي أن نعطي أولوية كبيرة للعلوم التقنية والتكنولوجية والطبيعية؛ أي علوم المادة عموما، بينما يتم تجاهل العلوم الإنسانية والاجتماعية والشرعية، سواء بحسن نية أو بسوئها.

وتكمن المشكلة الخطيرة في أن معظم من يتولى القرار في جامعاتنا ومؤسساتنا ومراكز القرار فينا لهم خلفية علمية تقنية بمفهومها الاختزالي الذي أنتجته الحضارة الغربية ونموذجها المعرفي، ويكادون يجهلون تماما ثراء وتنوع وأهمية وحيوية العلوم الإنسانية والاجتماعية والشرعية، ولهذا يعطونها هامشا ضئيلا في تفكيرهم وفي قراراتهم.

بل تراهم يتعسفون في قرارات خطيرة تجاه هذا المجال الحيوي، بحجة أن هذه العلوم هي علوم كلام فقط وليس فيها منجزات تطبيقية، أو أنها لا تنتج وغير مثمرة مثل العلوم التقنية، أو أنها علوم متأخرة تحتاج أن تواكب العلوم الطبيعية والتقنية.

وهذه وجهة نظر خطيرة جدا لأنها سطحية وغير علمية وغير منصفة، لأن المقارنة بين العلوم التقنية وبين العلوم الإنسانية والاجتماعية والشرعية مقارنة ظالمة، تجعل من العلوم التقنية هي المركز والباقي هامش.

كما أنها وجهة نظر تتجاهل أن العلوم الشرعية والإنسانية والاجتماعية هي علوم تبني الإنسان وتبني الوعي وتشكل الذهنيات، بينما العلوم التقنية تشتغل على المادة والآلة ولا علاقة لها بالوعي إلا بمقدار أثر منتجاتها على الإنسان، بل إن الإنسان بوعيه هو من يصنع تلك الآلات.

ولهذا فإننا مادمنا نزدري العلوم الإنسانية والاجتماعية والشرعية، ولا نعطي لها أولوية ولا نهتم بها، ولا نعطيها حقها من البرامج والعناية والتخطيط والبرمجة فإنا نبقى ننتج إنسانا مشتتا ووعيا مضطربا ملحقا بعلوم المادة لوحدها.

والناظر في كيف تصاغ برامج هذه العلوم، وكيف يتحكم التقني في الإنساني والاجتماعي والشرعي يعطيك البرهان على أن الشقة مازالت بعيدة، وأن عملا كبيرا ينبغي أن نقوم به لافتكاك المبادرة من التقنيين إلى حساب الإنسانية والاجتماعيين والشرعيين.

أقول هذا من وحي فوضى ما نعانيه من قررات التقنيين التي تقوض حقل المعرفة الإنسانية والاجتماعية والشرعية، بحجة التطوير والتحديث ومواكبة التقدم العلمي، في تجاهل تام لخبراء الميدان ذاته وفي تغييب لهم عن صنع مصيرهم.

ونعود فنقول إن تلك الفوضى والاختزال للعلم بمفهومه الشامل إلى مفهوم ضيق يتمحور حول العلوم الطبيعية، لا يمكن القبول به، كما يرى طه عبد الرحمن، بحكم مبدأين مهمين ذكرهما، وأولهما "مبدأ مراتب العقل، وبيانه أن السؤال الذي يجيب عنه العلم هو بالذات “ماذا أعقل؟ فيكون الأصل في العلم هو العقل الصحيح غير أن العقل الصحيح ليس كما شاع وذاع رتبة واحدة، وإنما هو –على الحقيقة- رتب متعددة؛ وحيثما وُجدت رتبة من هذه الرتب العقلية فثمّة علم على قدرها، وعلى هذا، يكون العلم فوق العلم الطبيعي متى كانت رتبة العقل الذي يتعلق به تعلو على رتبة العقل الذي يتعلق بالعلم الطبيعي، كما يكون العلم دون العلم الطبيعي متى كان العقل المتعلق به ينـزل عن رتبة العقل المتعلق بالعلم الطبيعي؛ وهكذا، فالعلم أوسع من أن يستوعبه العلم الطبيعي وحده (طه عبد الرحمن، كيف نفكر في لا صلة بين الدين والعلم، ص 39-40)، وهذا يشير إلى ما ذكره ابن خلدون من اختلاف وتنوع مستويات الإدراك العقلي.

أما المبدأ الثاني فهو "مبدأ استكمال العلم"؛ أي أن الأصل في كل علم من العلوم أن يطلب كمالَه، ولا يُحَصل هذا الكمال إلا بالالتجاء إلى العلم الذي يعلوه؛ ذلك أن كل علم تكون به آفات وله حدود، ولا يمكن أن يُزيل هذه الآفات ويَرفع هذه الحدود إلا علمٌ أرقى منه

فلا بد إذن لكل علم من أن يظل موصولا بالعلم الذي فوقه، حتى تزول عنه آفاته وترتفع عنه حدوده؛ وهكذا فالعلم الطبيعي لا تذهب عنه مناقصه ويكتمل حقا إلا بعلم غير طبيعي يسمو عليه( المرجع نفسه، ص40).

أي إن هناك تداخلا وتكاملا بين العلم، بحيث يستمد أحدهما من الآخر ويكمله. فلا ينفرد علم ما بتشكيل المعرفة وبناء المعرفة العلمية، بل إن كل علم يحتاج إلى علوم أخرى إما تسبقه فتوفر له المادة الأولية من المفاهيم والتصورات والأدوات أو تكون تبعا له تطبق مخرجاته.