قرأت منذ أيام كلمة للفيلسوف التونسي أبي يعرب المرزوقي يقول فيها: “التعليم باللغات الأجنبية من جنس استعارة اللاعبين في كرة القدم: تربح بغير أبنائها. تخادع نفسها بان لها تعليما وهو في الحقيقة تهديم. ولذلك فلن يصبح للعرب حقا مكانة في الثقافة الانسانية إذا ظل التعليم بلسان أجنبي ولم تتكون مكتبة عربية في كل الاختصاصات بلسان عربي واحد”.
إن هذه الكلمة من هذا الفيلسوف الكبير والمناضل العريق فكريا وميدانيا من أجل استعادتنا لمكامن قوتنا وتحقيق نهضتنا الحضارية، تحتاج منا إلى تأمل ونظر. وبخاصة أن الرجل ممن عرف عنه اتقانه للغات كثيرة: الألمانية والانجليزية والفرنسية، إضافة إلى فصاحته الكبيرة في العربية. إضافة على خبرته الأكاديمية في التدريس في جامعات عالمية كثيرة، وتأليفه في شأن الفكر الفلسفي وقضاياه المتعددة، وقضايا النهضة والتجديد الحضاري.
وهو في هذه الكلمة يضع يده على عائق من عوائق النهضة يتمثل في ازدواجية اللغة في عالمنا الإسلامي عموما، وفي عالمنا العربي بوجه خاص. حيث أن معظم مجتمعاتنا تعيش هذا الازدواج، بين اللغة العربية الأم وبين اللغات الأجنبية المتربعة على عرش التعليم والاعلام والبحث العلمي والتنمية والإدارة وكل القطاعات الحيوية، مما تسبب في تمزيق النسيج الاجتماعي والثقافي، ومنع انطلاق قدرات أبنائنا وبناتنا بلغتهم الأم. كما تسببت في تعميق التبعية للأمم التي نستعمل لغاتها في مجالاتنا الحيوية، وبخاصة الإنجليزية والفرنسية.
ولقد خصص مالك بن نبي فصلا لهذا الازدواج اللغوي في كتابه المهم (مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي)، واعتبر ازدواج اللغة عائقا يعاني منه المسلمون اليوم، وهي من ضمن المشاريع الاستعمارية التي غرسها في بلداننا، وتركها سرطانا يفكك عرى المجتمع والثقافة ويقف حجر عثرة امام بنائنا لمشروعنا في الخروج من التخلف.
يقول بن نبي: ” لقد غرس العصر الاستعماري فيما غرس من الظواهر المتصلة بالهياكل: الاقتصادية، والاجتماعية، والإدارية، في البلاد المستعمرة ظاهرةً خاصة: هي (ازدواجية اللغة) التي تتعلق ببُناه الثقافية والعقلية، وبأفكاره. وحتى البلاد الإسلامية التي لم تعرف الحضور الفعلي- الإداري والعسكري- للغرب لم تَسْلَمَ بقليلٍ أو كثير من الحدة مؤثرات ثقافته” (مشكلة الأفكار، ص137).
ويلاحظ في نص بن نبي ما يؤكد الواقع، انه حتى البلدان الإسلامية التي لم يتم استعمارها استعمارا فعلا أو كليا، فإنها وقعت في هذه المشكلة، وشملتها هذه الفوضى الاستعمارية، واندرجت في سياق التطبيع مع اللغة الأجنبية وتهميش اللغة العربية. ولذلك شواهد في مشرقنا العربي ومغربه.


لقد أحدث هذا الازدواج اللغوي تشظيا وانشقاقات في نسيجنا الثقافي؛ سواء في الجانب الفكري والفلسفي أو في الجانب الذوقي الجمالي أو في جانب المبدأ الأخلاقي. بحيث تشكل اللغة الأجنبية الدخيلة المهيمنة ليس لغة للتعبير فقط وإنما نمطا للتفكير، تدفع صاحبها إلى التحيز للمدارس الفكرية والفلسفية والجمالية الفنية التي تنتشر في تلك اللغة، فصار عندنا تيار فرانكفوني وتيار أنجلوفوني يتبنى ليس اللغة فقط، بل الزي وطرائق اللباس وأنماط التعبير ومدارس التفكير ومناهج التعليم وقيم الحياة الفرنسية والانجليزية.


يقول مالك بن نبي: “وهكذا فإن الانشقاق الذي أدخلته ازدواجية اللغة في العالم الثقافي للبلد الإسلامي؛ ليس فقط ذا طابع جمالي بل هو ذو طابع أخلاقي وفلسفي”(مشكلة الأفكار، ص139) وهذا الانشقاق، قد يبقى في دائرة الفكر والثقافة في بعض البلدان، لكنه في بلدان أخرى يتجاوز ذلك إلى النسيج الاجتماعي.
ومع ذلك فإن هذا الانشقاق يمكن له أن يتعمق أكثر من ذلك في بلادٍ إسلاميةٍ أخرى؛ حيث ازدواج اللغة لا يُستعمل لمجرد تفجير يطلق حركة العالم الثقافي الذي كان قد توقف فيه نبض الحياة الفكرية. ولذلك يستطرد بن نبي بقوله: “ففي الجزائر- مثلاً- وحتى الجزائر المستقلة؛ فازدواجية اللغة ليست فقط مجرد مفجِّر، بل هي أكثر من ذلك ديناميت قذف في العالم الثقافي، وإذا كان لم ينسف كل شيء فإن انفجاره أحدث أغرب الانشقاقات” (ص139). حتى أدى الامر إلى طبقتين او طائفتين او مجتمعين مختلفين في وطن واحد. و”يمكننا أن نرى الانشقاق الذي أحدثته ازدواجية اللغة أكثر عمقاً، إذ أنه يتناول القمة والقاعدة. فالبلاد لم تعد تحتوي نخبتين؛ وإنما مجتمعين متراكبين: أحدهما يمثل البلاد في وجهها التقليدي والتاريخي، والثاني يريد صنع تاريخها ابتداءً من الصفر” (ص141).
إن هذه الازدواجية في اللغة، بل وتغليب اللغة الأجنبية بتمكينها بأدوات القانون والسلطة، وفرضها وصرف أموال طائلة عليها لتعليمها ونشرها واعتمادها لغة العلم والإبداع والبحث والتعليم؛ خاصة التعليم العالي، ولغة الصناعة والإدارة والتجارة، بينما تعطل اللغة العربية وتؤخر، وتحارب، ويزدرى التعليم بها، بل وتعطيل تنفيذها رغم وجود القوانين التي تدعمها، بحجة عدم مواكبتها للمعرفة والتكنلوجيا، وعدم قدرتها على الابداع، كل هذا لا يؤدي إلى إحداث نقلة نوعية في التنمية وتطوير التعليم وإطلاق قدرات الانسان، كما يشاع، وإنما إلى ترسيخ التبعية للمستعمر وقدة الدونية أمامه وأمام لغته وثقافته وأنظمته وتجربته الحضارية.
وهذه ليست دعوة لعدم تعلم اللغات وتعليمها، ولكن شتان بين تعليم اللغات الأجنبية، وبين تحويلها إلى لغات أم، وتأخير اللغة العربية، مما يتسبب في انشقاقات ثقافية وتمزقات اجتماعية وفوضى قيمية، لأن المجتمع وأفراده يفقدون ذاتهم، ويصيرون في أحسن الأحوال نسخة مقلدة مشوهة لغيرهم.
ولو اكتفى المسلمون في دورتهم الحضارية الأولى بتعلم اللغة اليونانية والفارسية والهندية، ولم يترجموا إلى العربية ثم يبدعوا بها، لما صارت العربية لغة علم وحضارة طيلة عشرة قرون.
فهل يمكن أن نتخلص نحن من هذا العائق كما تخلصوا هم؟!