مثّلت الأوقاف الإسلامية إحدى الركائز الهيكلية الكبرى التي ضمنت استمرارية خدمة الحجاج عبر العصور، وجسّدت البعد الإيماني للمسؤولية الاجتماعية في أوضح تجلياته. فليست الأوقاف مجرّد أدوات تمويلية مستقلة عن تقلبات ميزانيات الدولة، بل هي في جوهرها تعبير مؤسسي عن التزام الأمة تجاه "ضيوف الرحمن"، وتفعيل عملي لمبدأ "الوقف على البرّ" في صيغته الأوسع: رعاية الإنسان في رحلته إلى المطلق. حيث شكّلت الأوقاف منظومة متكاملة من الخدمات امتدت على طول طرق الحج، وفي قلب المدن المقدسة، وتداخلت فيها الجوانب العمرانية بالغذائية والصحية والاجتماعية، بحيث تحوّلت رحلة الحج إلى شبكة لوجستية مترابطة تخفف من وطأة المسافة والمشقّة، وتعيد توزيع الرعاية كفعل إيماني - مؤسسي مشترك بين السلطة والمجتمع.

الاستراحات والخانات… هندسة الضيافة المؤسسية

تُعدّ الخانات(الرُّبط والمسافرخانات) أبرز مظاهر الوقف المرتبط بالبنية العمرانية للحج، وهي اِستراحات موقوفة تستجيب لحاجة المسافر إلى المأوى والخدمة في رحلته الطويلة. وقد صُمّمت هذه المنشآت وفق هندسة تتكامل فيها الوظيفة الأمنية بالراحة الجسدية؛ باحات محاطة بغرف نوم، ومرافق للوضوء والطهي، وأماكن لإيواء الجِمال. ويعتبر خان الزبيب في جنوب دمشق من أوائل المحطات المهمة لقافلة الحج الشامي، وقد بُني في عهد نور الدين زنكي، وجرى توسيعه لاحقاً في العهد الأيوبي.ومنذ العهد الأموي والعباسي، ثم في ذروة التنظيم المملوكي والعثماني، برزت نماذج مملوكية، مثل خان العِلا في شمال الحجاز وخان المنزول قرب دمشق. وفي العهد العثماني خان الحاج في دمشق، وخان معان على حدود الحجاز، وخان العمري في بادية الشام، وقد بُنيت جميعها بأموال موقوفة، تُدار وفق نظام لا يفرض أجرة على الحجيج، بل يُفتح لهم بالمجان. ومن ثم خانات سكة حديد الحجاز التي بنيت في عهد السلطان عبد الحميد، ومن أشهرها خان مدائن صالح وخان المدينة المنورة. 

البِرك والسقايات… الوقف المائي

لما كانت المياه أحد أعقد تحديات رحلة الحج، جاء الوقف المائي على رأس أولويات الواقفين. وقد حفرت الآبار العميقة في المناطق القاحلة، وأقيمت بِرك ضخمة لتجميع مياه الأمطار، وتُذكر من بين أبرزها "بركة زبيدة" التي ارتبطت باسم زبيدة بنت جعفر، زوجة الخليفة هارون الرشيد، و"بركة المعظم" في تبوك، و"بركة الحاج" في القاهرة التي كانت تُملأ بمياه النيل، وتحفظ حتى موسم الحج. وبرك العلا والحِجر والزرقاء، وإلى جانب هذه المنشآت، أُنشئت "السقايات" (السُبل) التي يديرها سقاؤون موقوفون، وهم يقدمون الماء للحجيج على امتداد الطريق.

مطابخ الخير والإعاشة… الوقف التكافلي الغذائي

وفّرت الأوقاف الزراعية والحضرية تمويلاً دائمًا لمطابخ خيرية تقدم الطعام المجاني للحجاج، خصوصاً الفقراء منهم. فقد وقف بعض الأمراء والسلاطين أراضٍ خصبة في الحجاز ومصر لصالح مؤسسات طبخ وتوزيع الطعام. وتذكر كتب الرحالة،  كابن جبير وابن بطوطة في العصر الوسيط، وعلي بن يوسف الفاسي في القرن السابع عشر، مشاهد القدور النحاسية الضخمة التي تُعد فيها الوجبات في محطات القوافل، بينما توزّع عند مغادرة المدن الكبرى كسلوك تعبدي واجتماعي في آنٍ، حيث يستقبل الأهالي الحجاج بالخبز والماء، ويودعونهم بالدعاء والزاد.

الرعاية الصحية والنظافة… الطب الوقفي في رحلة القافلة

رغم بدائية الوسائل، لم تغب الرعاية الصحية عن منظومة الوقف، بل شكلت جزءاً من العقد الوقفي في كثير من الحالات. فقد خُصصت رواتب لأطباء مرافِقين، وحلاقين (حجامين)، وهؤلاء يقدمون الإسعاف الأولي، والحجامة، والعلاجات المتاحة. كما أنشئت نقاط حجر صحي (كرتينة) كما في طور سيناء لعزل المصابين خلال الأوبئة، إضافة إلى حمامات عامة موقوفة في بعض المحطات الكبرى، مثل قلعة دمشق، حيث يتاح للحجاج الاستحمام وتبديل الملابس، وتُوزع عليهم صِرر فيها الصابون واللباس النظيف.

الحماية الاجتماعية والقانونية  الدولة الحامية في ظل الوقف

ارتبطت منظومة الوقف كذلك بأبعاد قضائية وإنسانية حمائية؛ فقد أنشئت بيوت ضيافة (رُبُط) لكبار السن والفقراء في مكة والمدينة، تضمن لهم المبيت المجاني. وفي العصر العثماني، قامت مؤسسة "ناظر الحاج" بحفظ أموال المتوفين من الحجاج وضمان وصولها إلى ذويهم، كما عُيّن مناديب للقضاة ضمن القوافل للفصل في المنازعات، ومراقبة التجار والمتلاعبين بالأسعار. وقد وثّقت الباحثة ثريا فوروخ في دراستها عن الحج العثماني كيف كانت الدولة تضبط الأسعار وتفرض الرقابة على الأسواق المؤقتة التي تظهر مع مرور القوافل.