في ظل تفاعل الأحداث في العالم العربي، وما نشاهده فيما صار عليه الحراك الإعلامي وكيف تتم معالجة قضاياه، حيثُ أنّ حال الصّحافة العربية اليوم من حيث مُستوى الحريّة ليس جيدًّا في معظم أنحاء الوطن العربي، فحتى تلك الصُّحف التي تصدر في دول الخارج لا تتمتّع بنفس مستوى الحريّة الذي تتمتع به وصيفاتها الصادرة بلغة تلك البلدان الأجنبية.
وقد أظهر التقرير الذي أصدرته منظمة مراسلون بلا حدود حول مؤشر حرية الصحافة لعام 2018، والذي يقيس أوضاع الصحافة في 180 بلدًا حول العالم. من بينهم 22 دولة عربيّة، تزايد الكراهية والعداء للصحافيين، حيث أصبحت "فوبيا وسائل الإعلام" واضحة جدًّا، لدرجة أنّ الصحافيين يواجَهون بشكل روتيني بتُهم متعلقة بالإرهاب، ويتعرّض الذين لا يُظهرون الولاء للأنظمة للسجن التعسفي، فلم يعد يُنظر إلى الإعلام باعتباره جزءً من الدّعامة الأساسيّة للديمقراطيّة، بل خصمًا يظهرون نفورهم منه علنًا.
وقد تصدّرت النرويج التّصنيف بحصولها على 7.63 نقطة، فيما حلّت السويد في المركز الثاني بحصولها على 8.31 نقطة، وجاءت هولندا في المركز الثالث بحصولها على 10.01 نقطة، فيما تذيلته كوريا الشّمالية، وعربيًا حافظت جُزر القمر على تصدّرها للترتيب، فيما حافظت سوريا على تذيله، مع وجود ثلاث دول عربيّة في ذيل القائمة. ويستند هذا التصنيف لحرية الصحافة إلى مجموعة من المؤشرات هي: التعددية، استقلالية وسائل الإعلام والبيئة، الرقابة الذاتية، الإطار القانوني والشفافيّة والبنية التحتيّة والتجاوزات.
إنّ الصّحافة في الدّول الديمقراطية تمثّل سلطة رابعة بالفعل، فهي تبصّر الناس بأمور حياتهم وتطرح القضايا الساخنة على بساط البحث وتسقط الحكومات وتكشف عن الفساد في منابعه.
على عكس الصّحافة في الدول العربيّة إذ يميل أغلبها إلى تقييد هذه الحرية للحد منها، فضلاً عمّا تكشف عنه الممارسات الفعلية في العديد من الدول، من انتهاكات مستمرة سواء بإغلاق بعض الصّحف أو ضبطها ومصادرتها أو بعدم توفر الضمانات الكافية للصحفيين لممارسة عملهم، فهم يتعرضون في كثير من الدول العربية للحبس وتغليظ العقوبات في قضايا الرأي والنشر والتوقيف عن ممارسة المهنة، ممّا جعلها لا تزال محدودة التأثير في الحياة السياسية والاجتماعيّة بسبب القيود الكثيرة التي تكبلها، والتي بعضها حكومي فيما البعض الآخر اجتماعي تُمليه التقاليد العفنة البالية الضّاغطة، وبسبب الرقابة المنظورة وغير المنظورة التي تحاصرها من كل جانب، يضاف إلى هذا ما تمارسه رؤوس الأموال المالكة للصّحف من تحكم في تدفق المعلومات وتداولها وتواطؤ مع أصحاب المصالح الذين يزوّدون الصحف بالإعلانات التي تُعدّ العصب الأساسي لأرباح الصّحف في الدول العربيّة.
ثمّ إنّ ضعف البيئة الإعلامية المحفزة والممكّنة للمعرفة في المجتمعات العربية يشير إلى أنّ الإعلاميّين العرب يواجهون وبدرجات مختلفة، صعوبات جمة في الوصول إلى المعلومات والحصول عليها والاطلاع على الوثائق والبيانات، والرجوع لمصادر الأخبار الرسمية وغير الرسمية على السواء، حيث تتذرع السلطات غالبًا بأمور غامضة مثل الحديث عن أسرار رسميّة أو معلومات تمس الأمن القومي.
إنّ هذه الرقابة على الصحافة ووسائل الإعلام تفتك بالعمل الإعلامي وتُعيق تطوره ووصوله إلى ما وصل إليه الإعلام في العالم المتقدم، كما أنها تعيق تطور المجتمعات العربية السياسي والاجتماعي، فحرية الصحافة لا تعني الصحفيين فقط وإنما تعني المجتمع كله بما فيه من أحزاب سياسية ونقابات ومنظمات مدنية وتنظيمات مهنية.
فمثلاً بسبب الحروب الأهلية التي تعيشُها كلٌّ من سوريا واليمن والعراق، تأثّر مؤشّر الصّحافة سلبًا وذلك لاستمرار تدهور الوضع الأمني، الذي يمنع الصحافيين من الوصول إلى العديد من المناطق المتنازع عليها، وبسبب الاعتقالات والإعدامات العديدة التي نفّذت في حق الصحافيين والنّاشطين محليين كانوا أو أجانب لتُهم مختلفة، إضافةً إلى قضايا التشهير التي رفعت ضد آخرين، فتنوعت عقوباتهم بين السّجن والغرامات المالية الطائلة. ففي سوريا جميع الصّحف مملوكة من النظام الحاكم أو من رجال أعمال يعملون لصالح النظام، ولا توجد طريقة معروفة للحصول على المعلومات، كما شهدت مقتل 13 صحافيًّا سنة 2017، فيما اعتقل أو اختطف أو اختفى أكثر من 40 صحفيًّا على أراضيها، ما جعلها واحدة من أخطر دول العالم إعلاميًّا، وجاءت في مؤخرة دول المنطقة في مؤشر هذا العام.
وفي السّعوديّة أيضًا، قالت المنظمة إنّ وعود ولي العهد محمد بن سلمان الإصلاحية لم تترجم إلى تحسن في أوضاع حرية الصحافة، فالعشرات من الناشطين والمعارضين للحكومة والصحافيين اعتقلوا في 2017.
في حين تعرف الجزائر العديد من الخطوط الحمراء، فمثلاً تطرق الصحفي لمواضيع مثل الفساد أو صحة الرئيس يجعله عرضة للتهديدات والمضايقات الإلكترونية والاعتقال. وتستخدم السلطات سلاح الضغط المالي والسياسي على وسائل الإعلام، فضلا عن مقاضاتها.
أمّا في مصر، فقد شهد مؤشّر الصّحافة هبوطًا واضحًا، والسبب يعود للعدد الكبير من الاعتقالات والدعاوى القضائية التي شهدتها السنوات الأخيرة بحق الصحافيين والإعلاميين، والتي أدت إلى عقوبات قاسية بحق الكثيرين منهم، إضافةً إلى الرّقابة الشديدة على الصحف ووسائل الإعلام ممّا ترتّب عليها إغلاق بعضها، والذي طبعًا أفضى تدريجياً إلى ظهور اللون الواحد لوسائل الإعلام وجعل معظمها مؤيدة للنظام الحاكم. كما نجدُ النّخب والسياسيّين لا يؤمنون بالديمقراطية ولا يضعون أي اعتبار أو احترام لرأي الشّعب، بينما كلمة (الشعب) هذه تصير مضغة في خطبها وأحاديثها والصورة التي يرسمونها للآخرين عبر الكلمات والعبارات المنمقة.
إنّ هذا القمع الذي تُمارسُه بعض الأنظمة العربية، يخلقُ حيزًا مُعيّنًا لممارسة حريّة الإعراب عن الفكر لمصالحهم دون خوف من نتائج ذلك الإعراب. لأنّ لديها مثقفون مأجورون ومفتقرون إلى قدر كبير من النّزاهة والحياد والموضوعية، خضعوا أو أخضعوا فطوّعوا أنفسهم وسخّروا أقلامهم ومعرفتهم وفكرهم للارتزاق ولخدمة ذوي السلطة في نظام اقتصادي أو طبقي أو إقطاعي دون مراعاة للمثل العليا وللمصالح العامة، وهؤلاء يمارسون ممارسات سياسية معينة لا تتفق مع رؤى وتطلعات شعوبهم. وعلى هذا النحو تُصبح تلك الصّحف والمجلاّت خادمة للرُّؤى والمصالح والأغراض السياسيّة والاقتصاديّة، وتكون أيضًا منابر لخدمة وفرض موقف الحكومة التي لا يكون عملها بالضرورة بتوجيه ووحي المصالح الوطنية والمعيشية لشعوبها، ومن نافلة القول أنّه يوجد في البلدان العربية صحفيّون وإعلاميّون يتوفر لديهم قدر أكبر من النّزاهة والصراحة والجديّة والصّدق في التعبير عن أفكارهم وأحاسيسهم وتتسم بياناتهم بالشجاعة والإخلاص للشعب والوطن بتسخير أقلامهم ونفوسهم خدمة لقضايا عادلة وعدم السّكوت عن القمع والاضطهاد بمختلف تجلياتهما.
رغم هذا الأفق الرمادي الذي يحيط بالحالة الصحفية في الوطن العربي، فإنّ الكفاح الذي خاضه الصحفيون وقطاعات المجتمع المدني المختلفة، قاد القطاع إلى تحسن أوضاع الحريات الصحفية خلال هذه السنوات الأخيرة وتطوّر الصّحافة العربية (المكتوبة والمسموعة والمرئية وصحافة الأنترنت كذلك)، ودخول هذه الصحف ووسائل الإعلام المرئية (ونخص بالذكر هنا الفضائيات مثل الجزيرة والعربية وغيرها من الفضائيّات التي أنشئت بتمويل من أشخاص أو من جهات حكومية أو مقربة من الحكومات في الوطن العربي) طورًا من المنافسة مع بعضها البعض، أو حتى مع وسائل الإعلام العالمية سواء من حيث قدرتها على الوصول إلى مصادر الأخبار وسرعة بثها لها، أو من حيث فتحها المجال للحوار الحر الجريء على شاشاتها، وإتاحتها المجال للرؤى المعارضة للجمهور الذي كان صوته مكتومًا أو خفيضًا فيما مضى. ثمّ إنّ حريّة الصحافة أو الإعلام لا يتحقّق إلاّ على أساس مبادئ التحرّر الوطني الإنساني وأجواء نظام ديمقراطي ملتزم. وهنا يجب التشديد على أهميّة أن تكون الصحافة والإعلام حراً ومهنياً وتعددياً لأنّ تفعيلهم كسلطة رابعة تعمل كأداة لنشر الشفافيّة ضروري من أجل تحقيق نجاح في محاربة الفساد الذي يُبدّد موارد الشّعوب من خلال سوء استخدام السلطة، وبالإضافة إلى ذلك تلعب الصّحافة والإعلام دوراً حاسماً في العمليّة السياسيّة الديمقراطيّة كوسيط بين المجتمع ومؤسسات الدولة، تقوم على دعم الديمقراطيّة كونها المنظومة الأفضل لإنعاش وتنمية المجتمعات العربيّة التي يُفتقد فيها غالبًا احترام حقوق المواطنة الأساسية.