الحضارة كلمة مستحدثة، لم ترد في القرآن الكريم، ولا في السنة النبوية المطهرة، وهي قليلة الاستعمال إن لم تكن نادرة في الشعر العربي القديم، وحتى في المعاجم اللغوية القديمة مثل "لسان العرب" لا تكاد تجد لها ذكرا، وهي لفظة مثير للجدل والتساؤل، وغالبا يستحضر استخدامها قيمًا سلبية أو إيجابية، ولما تأملت ما كتبه المفكرون حول مصطلح الحضارة، خلصت إلى أن حضارة أمة ما في حقبة زمنية معينة يقصد بها المفكرون أمورا مختلفة مثل الفكر، والمدنية، والقيم، والإنتاج، والتراث، والفولكلور، والأدب، والفنون، والسياسة، والاقتصاد، وغيرها. فما هي (الحضارة) إذًا؟ بالتأمل الشديد فيما كتبوه خلصت إلى التالي:

  تعاريف للحضارة

تعريف ديورانت Durant 

يرى ديورانت أن الحضارة هي: "مجموع ثمانية أمور: الاقتصاد والسياسة والأخلاق والقيم والعلم والفلسفة والأدب والفن، والتي تصف أمة معينة في حقبة زمنية".  وحقيقة الأمر أن الأمور الثمانية تشمل كل جوانب الحياة بلا استثناء، وبالتالي نحن يمكن أن نختصرها في الفكر الذي يؤدي للمدنية.

  من هو ديورانت؟ 

يعتبر "ديورانت" أكبر عالم متخصص في الحضارة، وهو صاحب موسوعة قصة الحضارة الذي طبع في (11) مجلدًا، في عشرة آلاف صفحة، وقضى – هو وزوجته - في كتابته (40) سنة، وتمت ترجمة الموسوعة إلى تسع لغات، وطبع منها أكثر من مليوني نسخة.  تجد في الموسوعة تغطية شاملة للحضارات في التاريخ شرقها وغربها، بما فيها الحضارة الإسلامية بحقبها المختلفة، وجغرافيتها المتنوعة، وطوائفها ومذاهبها.  وصل المؤلف إلى قصة نابليون ولم يكمل الموسوعة، وفازت الموسوعة بجائزة "Pulitzer" كأفضل كتاب في العالم عام 1968، توفي مع مطلع القرن العشرين.

  تعريف مالك بن نبي

يعتبر المفكر الجزائري "مالك بن نبي" رحمه الله أن مشكلة كل الشعوب هي مشكلة حضارية في أساسها، وخاصة الشعوب المستعمَرة، لأنها تملك العقلية القابلة للاستعمار. ويرى رحمه الله أن الحضارة في صورتها النهائية تتشكل من الإنسان+ التراب+ الوقت، وفي تعريفه للحضارة يؤكد أن الحضارة لا تقوم في فراغ، أو في حياة غير مستقرة، بل لا بد لها من أرض تقوم عليها، وأنها يصنعها شعب مستقر على هذه الأرض، وأن الحضارة تحتاج لزمن (حقبة) حتى تظهر نتائجها، وبهذا يؤكد هنا نفس النتائج التي قال بها ديورانت. وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه لا يكفي وجود الأرض والشعب والزمن، فقد تكرر هذا كثيرًا في التاريخ، ومع ذلك لم تقم حضارة، إذاَ لابد من وجود فكرة عميقة تحرك وتجمع هذه العناصر الثلاثة حتى تتكون الحضارة.

من هو مالك بن نبي؟

"مالك بن نبي" مفكر جزائري عظيم (1905 – 1973)، أحد رواد نهضتنا الحديثة، كانت له إضافات فريدة في الفكر الإسلامي المعاصر، ومساهمات فذّة في فكر النهضة والحضارة، وننصح بقراءة كتبه المتعلقة بموضوع الحضارة، ومن أهمها (مشكلات الحضارة) و(شروط النهضة) و(مذكرات شاهد القرن) و(بين الرشاد والتيه) و(ميلاد مجتمع) وغيرها.

تعريف الشهيد سيد قطب

يؤكد الشهيد سيد قطب رحمه الله تعالى أنه لا توجد حضارة غير الإسلام، فيرى رحمه الله أن "الإسلام هو الحضارة"، لأن أي حضارة أخرى ستخالف القيم الإسلامية "لأنها ليست حضارة إسلامية"، وإذا خالفنا القيم الإسلامية فسوف نقع في المعاصي والخلل الأخلاقي، وهذا كفيل بتدمير حضارة كبيرة مؤصلة في التاريخ مثل حضارة الفرس والروم حيث انهارت في فترة قصيرة جدًا.

ولا أستطيع الموافقة على ما يقوله الشهيد حيث أنه ألغى بهذا التعريف كل الحضارات السابقة والقائمة واللاحقة، كما أن الواقع والآثار والتاريخ يشهد بوجود حضارة ساسانية أو رومية أو هندية أو صينية أو غيرها. 

لكن يمكن تعديل تعريف الشهيد سيد قطب رحمه الله ليصبح "الإسلام هو الحضارة المثالية" عندها يكون التعريف مقبولًا، رحم الله تعالى الشهيد سيد قطب وكل شهداء الأمة الذين ضحوا بأنفسهم لنبني حضارتنا المنشودة من جديد.

تعريف سويداني

تأملت ما كتبه المفكرون حول مصطلح الحضارة، ولأن غايتي هي تبسيط هذا الموضوع الشائك للأمة، وخاصة للشباب المقبل على النهضة والمشاركة في بناء حضارة الإسلام من جديد، فخلصت إلى أن حضارة أمة ما في حقبة زمنية معينة يُقصد بها: " المنهج الفكري للأمّة في حقبة ما، والمتشكل في إنتاج معنوي ومادّي".

إن أيّ أمة لا تملك فكرًا منهجيًا واضحًا فإنها لن تستطيع بناء حضارة، وإن بنت فلن تعمّر طويلًا، ولمّا توفي النبي صلى الله عليه وسلم تاركًا الدنيا، لم يخلّف وراءه قصورًا فارهات، ولا مبانٍ شاهقات، ولم يورّث أصحابه الأموال الطائلة، بل ورّثهم الفكر، فترك من خلفه رجالًا يحملون فكرًا راقيًا، وبه انطلقوا ليفتحوا القلوب، وينشروا نور الإسلام وضياء الحق.

تعليقات على التعريف

1- الحضارة أساسها الفكر: ولذلك هناك حضارة إسلامية وفارسية وهندية ورومانية وأمريكية وغيرها، أما الدول التي تستورد المباني والأوبرا وأنظمة الإدارة وغيرها بلا فكر يحكمها ولا قيم توجّهها، فهذه لديها (مدنية) لكن ليس لها حضارة.

2- الحضارة لأمة: نعم هناك إنسانية مشتركة وخاصة في جانب القيم العالمية كالصدق، الأمانة، العدل، لكن الحضارة هي الفكر الذي تتبناه أمة معينة، وتتحاكم إليه، وتوجه (المدنية) وفقه، بلا (فكر) لا توجد حضارة، وكذلك بلا (أمة) لا توجد حضارة بل يصبح طرحًا فكريًا على أَرْفُف المكتبات. 

3- الحضارة لها مدة زمنية: فهي ليست دائمة، وإنما لها حقبة زمنية، وهذا ينطبق على كل الحضارات بما فيها الحضارة الإسلامية، لذا يمكن النظر إلى الحضارة الإسلامية على أنها "حضارات" وليست حضارة واحدة، حيث هناك (حضارة للعباسيين) فيها المشترك والمختلف عن حضارة (الأمويين في الأندلس) على سبيل المثال. 

4- المدنية هي نتاج الحضارة: فالحضارة فكر كما قلنا، لكن الناس لا ترى الفكر وإنما ترى نتائج الفكر والتي تتشكل في أمرين رئيسيين هما: 

أ. الإنتاج المادي: مثل المباني والمساجد والجامعات والملابس والطعام، انظر إلى مكدونالدز كمثال.. 

ب. الإنتاج المعنوي: مثل الفنون والآداب والثقافة والعلوم والمناهج والإعلام ونحوها.  

فالمدنية هي مجموع الإنتاج المادي والمعنوي، وهي نتاج "المنهج الفكري". 

5- الحضارة هي الفكر والمدنية: فالفكر وحده لا يشكل حضارة بل سيظل حبيس الكتب، والمدنية وحدها هي إنتاج نشاز ليس وراءه ما يوجهه أو يربطه، أما عندما يؤثر الفكر في المدنية ويوجهها، فإن مجموع (الفكر + المدنية = الحضارة).

الفكر أساس الحضارات

إن أيّ أمة لا تملك فكرًا منهجيًا واضحًا فإنها لن تستطيع بناء حضارة، وإن بنت فلن تعمّر طويلًا، ولمّا توفي النبي صلى الله عليه وسلم تاركًا الدنيا، لم يخلّف وراءه قصورًا فارهات، ولا مبانٍ شاهقات، ولم يورّث أصحابه الأموال الطائلة، بل ورّثهم الفكر، فترك من خلفه رجالًا يحملون فكرًا راقيًا، وبه انطلقوا ليفتحوا القلوب، وينشروا نور الإسلام وضياء الحق، ويضيئوا مواطن الظلمة من هذا العالم. 

لذا كان الفكر الإسلامي الأصيل سببًا من أسباب بقاء الأمة، وامتداد أثرها، وعدم انهيارها مع كل ما تعرضت له من مكائد ومصائب وانهزامات.

وفي المقابل نجد المغول، تلك الأمة الطاغية الشرسة التي بنت أمجادها على غيرها من الأمم، سيطرت على غيرها بالقوة والجبروت، ولأنها لا تملك فكرًا سرعان ما ذاب أبناؤها في عقيدة الإسلام وشريعته وحضارته، لمّا تعرفوا عليها عن قرب.

الحضارة فكر وإنتاج

تتشكل أي حضارة من جزئين الفكر والإنتاج، ويشمل الفكر المبادئ والقيم والطموحات، وفهم الحياة، وبدون الفكر لا توجد حضارة، والفكر وحده لا ينتج حضارة، بل يجب أن يكون هناك إنتاج معنوي ومادي، يعبّر عن روح هذه الحضارة، ويميّزها عن غيرها من الحضارات.

فلا يسمى حضارة ما كتبه العلماء والمفكرون، وبقي حبيس الكتب ولم يطبّق عمليًا، هذا لا يسمى حضارة بل هو فكر، وأي إنتاج مادي من مبانٍ ومصانع وفنون، أيضًا لا يسمى حضارة، طالما أنه لم يستند إلى فكر بل هو مدنية.

من أمثلة الإنتاج المعنوي: الشعر، الفن بأشكاله وأنواعه، الأدب، الاقتصاد، والذوق.

ومن أمثلة الإنتاج المادي: المباني، التكنولوجيا، القوة العسكرية، والمصانع.

المدينة الفاضلة

لأن الفكر المجرد عن الإنتاج لا يصنع حضارة، فإن "المدينة الفاضلة" التي تحدث عنها الفلاسفة بقيت مجرد فكرة في عقولهم، وكلمات في كتبهم، لأنها لم تتشكل في إنتاج مادي ومعنوي.

وإن كان هناك وجود لمدينة فاضلة فهي ليست إلا الحضارة التي قدمها الإسلام للبشرية جمعاء، حضارة الكرامة والعزة، حضارة الإنسانية والأخلاق، حضارة الطموح والتنمية، حضارة الحرية والانفتاح.

دائمًا كنت أتساءل متأملًا: لماذا ساد الإسلام العالم كله؟ ما هي مقومات الحضارة الإسلامية العظيمة؟

هل اندثرت هذه المقومات؟ أم أنها باقية ما بقي الإسلام؟ هل يمكن أن تعود حضارة الإسلام من جديد؟

بشرى وأمل.. في آخر الزمان خلافة على منهاج النبوة

روى الإمام أحمد في مسنده من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا، فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ ثُمَّ سَكَتَ)).

هزّني هذا الحديث لمـّا قرأته أول مرة، هزّني لأن كل ما حولي يشير إلى الظلمة والظلام، ويبعث على الحسرة والإحباط، ويدعو إلى اليأس من التغيير، فلّما قرأت هذا الحديث انبعث في نفسي شعاع الأمل من جديد، فالحديث صريح في أن الأمة ستمر بمراحل ومنعطفات، ولكن في نهاية الحديث يبشرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الإسلام قادم، وأن حضارة الإسلام ستعود من جديد، وأن الخلافة الراشدة سترجع من جديد، بعد فترة الحكم الجبري، الذي يحكم فيه العسكر بالحديد والنار، وتصادر فيه كرامة الإنسان وحريته.

والسؤال المطروح بقوة، هل نكون اتكاليين فننتظر مجيء المخلّص الذي سيعيد مجد الإسلام؟ وهل سنجلس منتظرين خروج المهدي الذي سينشر العدل في الأرض كما يفعل بعض ضعفاء الهمة؟ هل سنفعل ذلك؟ أم نأخذ بالأسباب ونجتهد في إيجاد وإعادة هذه الخلافة الراشدة؟