أكثر ما يدل عليه العلم هو وجود الله تعالى، فالعلم مركب من الحس والعقل، والإنسان يحلل مدخلات الحس بعقله ويخرج بنتائج، وهذه العملية تبدأ من اللحظات الأولى من طفولته وتترقى مع كبره، بل وحتى الحيوانات تستنتج من المحسوسات وتربط الأثر بالمؤثر، فتعلم مثلا من رائحة الطعام أن هناك طعاما وراءه فتبحث عنه، وكذلك منها ما يقص الأثر كالكلب، فيبحث عن صاحب هذا الأثر.

كما أنك إذا رأيت تفاحة مقضومة عليها آثار أسنان إنسان، علمت أن هناك إنسانا قضمها، هذا يعتبر علم، وذلك مع أنك لم تر هذا الإنسان! كما وإذا سمعت أنشودة بصوت جميل علمت أن هناك من ينشدها، هذا أيضا علم، مع أنك لم تر الذي أنشدها! بل هذه علوم بديهية، ولشدة بداهتها لا يسميها الناس علما.

فكلمة علم يتبادر منها أيضا إعمال التأمل والتحليل، وهو ما لا تحتاجه فيما سبق ذكره من أمثلة، فلكل حادث سبب، وهذا مبدأ عقلي وفطري وبديهيّ لا يحتاج تعليما ولا ذكاء، ونحن نعمل بقانون السببية في كل حركاتنا.

فنأكل لأن الطعام سبب في سد الجوع، ونشرب لأن الماء سبب في سد العطش، ونلجأ للنوم كسبب للراحة ونعمل كسبب لتحصيل العيش، بمبدأ السببية هذا تعلم أن لنفسك وللكون من حولك خالقا مدبرا أوجد الكون وهيأه للحياة، أحكم تفاصيله وضبط قوانينه، بحيث تظهر آثار قدرته في نفسك وفي حركات الموجودات حولك.

لهذا فإن السؤال: هل هناك دليل على وجود الله تعالى؟ سؤال غير دقيق، لأنه ليس هناك شيء، إلا وهو دال على وجود الله تعالى، فمثلا لو دخلت بيتا ليس لك، وجلست على الكرسي فيه، وأكلت من طعام مطبوخ على الطاولة أمامك، فهل يصدر عنك حينئذ (إن كنت عاقلا) سؤال: هل هناك دليل على أن لهذا البيت بانيا؟ ولهذه الكرسي صانعا؟ ولهذا الطعام طاهيا؟ هل هناك دليل على أن أيا من هذه الأشياء حصل بفعل فاعل؟ ألن يكون سؤالك حينئذ غبيا ومستفزا؟!

قال الله تعالى: (قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ) (يونس:101)، هنا السؤال عام وشامل عن ماذا في السماوات والأرض؟ فكل ما فيهما يدل على الله تعالى وعلى صفاته، لكن الذين عندهم مشكلة في الإيمان بالغيب أصلا، فلن تنفعهم الأدلة، مهما كانت دالة وواضحة، حيث قال الله تعالى: (أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ ۖ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (الأعراف:185)، وقول الله تعالى في ملكوت السماوات والأرض، فحرف (في) يشمل التأمل والتدبر في التفاصيل، والذي سيدلك أكثر وأكثر على الخالق سبحانه، أما قول الله تعالى، وما خلق الله من شيء، فتعني كل ما خلق الله من شيء فإنه يدل عليه سبحانه، فيا عجبا هنا كيف يعصي الإنسان الإله؟! كيف يجحده الجاحد؟! ولله تعالى في كل تحريكة وفي كل تسكينة شاهد، وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد. 

هل هناك دليل على وجود خالق؟ ليس هذا هو السؤال الصحيح، بل هل هناك شيء يستطيع أن يخرج وينسلخ عن كونه دليلا على وجود الخالق؟ والجواب: لا.

وبما أن حاجة الناس والبشر إلى معرفة ربهم أعظم الحاجات، فترى أن الله تعالى يجود عليهم بأدلة وجوده وطرق معرفة صفاته.

 فمن أسماء الله تعالى (الظاهر)، الظاهر بحججه الباهرة وبراهينه النيرة، وشواهده الدالة على صحة وحدانيته، فالله تعالى ظاهر، مدرك بالعقول والدلائل، وهو في الوقت ذاته باطن؛ لأنه غير مشاهد كسائر الأشياء المشاهدة في الدنيا، وهذا هو الدليل بإحكام وبساطة ووضوح وعمق على أن كل الكائنات في الوجود تدل على وجود الله تعالى، وكل ما نشاهده ليس كائنات عشوائية، بل أن بنيتها وحركاتها تدل على أنها مخلوقة، أي مصنوعة بإرادة وقدرة، ولا يمكن لـ(اللا شيء والعدم) أن يخلقها، ولا يمكن لها هي نفسها أن تخلق نفسها، وقد كانت عدما قبل أن توجد، فلا بد من خالق لها متصف بالإرادة، والقدرة، والعلم، والحكمة، والعظمة وسائر ما تدل عليه مخلوقاته.

الإنسان بإمكانه أن يؤمن بوجود الله تعالى إيمانا عقليا، فطريا، مستندا إلى أسس علمية محكمة، وذلك حتى دون أن يفهم الشبهات ولا أن يفهم الردود عليها، وكما قيل إن أصعب المهمات توضيح الواضحات، لأن توضيح الأمور الواضحة لا يكون إلا مع من يجادل في المسلَّمات ، وبالتالي فليست هناك أرضية مشتركة للنقاش والإثبات معه، فلو أن إنسانا رأى الشمس في منتصف النهار وقال: أنا غير مقتنع أن هناك شمسا.

فنسأله لماذا؟

يجيب: لعلها كرة صناعية ملتهبة، وضعت أمامنا، قلنا له: لكن هذه الكرة، كيف هي معلقة في الهواء، ولا بد لها من حبل يشدها ونحن لا نرى حبلا؟!

قال: لعله حبل شفاف، فقلنا له: وبماذا عُلّق هذا الحبل؟ ومن يحركه؟ ثم أي حبل هذا الذي سيتحمل هذه الحرارة دون أن ينقطع؟ فقال: لعل في الكرة مغناطيسا ضخما مشحونا بنفس شحنة قطعة معدنية خبئت في الأرض تحته، فتنافرا، فبقيت معلقة في الهواء، فدخلنا معه في حساب الكتلة المطلوبة لهذا المغناطيس ومقدار الجاذبية الأرضية بالحسابات الرياضية وتفوقها على التنافر المغناطيسي إلى أخره.

المستمع لحوارنا قد يقول: كل هذا دليل على طلوع الشمس في السماء! أنا كنت أظن المسألة أوضح من ذلك! نقول: لا، ليس هذا دليل طلوع الشمس في السماء، وإنما هذه ردود على الذي ينكر أشياء واضحة بديهيّة لا تلزمك،

 ولا تحتاج أن تفهمها حتى تقتنع بطلوع الشمس قناعة علمية وعقلية صحيحة، فالمشكلة ليست في حقيقة وجود الشمس، بل المشكلة في المنكر لها، كما وأن إنكاراته وشبهاته مهما كثرت لم ولن تنفي أن وجود الشمس حقيقة بديهية واضحة، لكن كما قيل قديما: (وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل).

ما سبق ذكره ليس جزءا من الدليل على وجود الله تعالى، بل رد على الاعتراضات المثارة على الدليل، والخلط بين الأمرين خطأ، فبعض الناس يمكن أن يكون لديه إيمان فطري، لكن عندما يسمع هذه المناقشات في الرد على الشبهات، يقع في نفسه أن حقيقة وجود الله تعالى غامضة وخفية، بحيث أنها تحتاج إلى ذكاء وفلسفة وبحث، وذلك لأنه ما ميّز أن كل ما سمعه ليس جزءا من دليل وجود الله تعالى، بل ردود على شبهات، وأن التعقيد فيها ليس لتعقيد في حقيقة وجود الله تعالى، بل لتعقيد مهمة أن تحاور من يشكك في الأمور البديهية.

لذلك فمن الضروري والمهم الفصل بين أدلة وجود الله والرد على منكري هذه الحقيقة البديهية، ثم إن كثرة ترديد الشبهات المثارة ضد شيء لا تعني بالضرورة ضعفه، بل في حالة وجود الله تعالى، فإن كثرة ترديد الشبهات تعبر عن حالة مصارعة المنكرين لهذه الحقيقة التي تهجم عليهم وتفرض نفسها عليهم، فيدافعون عنها بكل شبهة لتسكين نفوسهم المضطربة.