خلق الله سبحانه لدين الإسلام في كل حقبة من الزمان أناسا يحملون هم نشره، ويعملون لعزة أهله في وقت الهوان، أو يرومون حفظ عزتهم حال القوة والتمكين.

ومن مسلمي زماننا، شيبا وشبابا، من حملوا هذا الهم وبذلوا ولا زالوا في سبيل ذلك عزيز أوقاتهم وعظيم جهودهم. إلا أنه في خضم تلك المشاغل والهموم لابد من وقفات لاستحضار المقصد والغاية، ثم تقييم مدى مداومة الاعتماد على الوسيلة الأجدى لتحقيق تلك الغاية.

ومن النماذج النهضوية القرآنية التي يعرضها لنا القرآن الكريم سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام، والذي أثناء قيامه بما أمر به، نراه مستحضرا المستقبل وذاكرا المقصد، يقول الله تعالى: "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا " [سورة البقرة]. 

ولقد شاع في الأولين من حاملي مشعل النهضة موسوعيتهم المعرفية، فتجد الطبيب منهم فيلسوفا وفقيها قاضيا، مرتبطا بالقرآن الكريم فهما واستنباطا وتدبرا. بينما غلب على أهل زماننا التخصص المعرفي، ولا زال ذاك التخصص يتعمق ويتركز حتى لا يكاد المختص يهتم بغير فنه أو جزئيته، وتلك -إن أمعنا النظر- قوة لا ضعف. ولكن هذا الحال يحتم أن تجمع التخصصات مكونة فريقا موسوعي المعرفة.

فما دام المقصد واحدا متمثلا في نهضة أمة الإسلام، فكذلك يجب أن تتوحد وسيلته والتي هي بوصلة هذه النهضة، إنها القرآن الكريم.

وقد يقال: هل تريد أن تكون الأمة كلها فقهاء؟ هل شرط العمل للدين أن أكون حافظا للقرآن الكريم أو مفسرا؟...

والجواب على ذلك ظاهر لائح، ولو أمكن أن تعاد صياغة مثل هذه الأسئلة فيقال: كيف يمكن لمشتغل بنهضة الأمة تكنولوجيا والمتخصص في العلوم الدقيقة (رياضيات، فيزياء، طب..) أن يتوسلوا بالقرآن الكريم لتحقيق مقصدهم النهضوي؟

ولست أتحدث عن ارتباط هؤلاء بالقرآن الكريم إيمانا وتلاوة وتقديسا، فلولا ذلك ما كان همهم هذه النهضة، ولكن القصد فاعلية القرآن الكريم في العمل النهضوي بمختلف تجلياته ومجالاته.

القرآن الكريم كتاب هداية، والتي هي غاية ما يطلبه المسلم في كل يوم من حياته، وأول دعاء يفتتح به كتاب رب العالمين: "اهدنا الصراط المستقيم" ليليه مباشرة في السورة الثانية بيان مصدر هذه الهداية في قوله تعالى: "ألم، ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين"، وأدنى شك في صلوحية هذا الكتاب للاهتداء يحجب ويمنع حصوله.

والهداية نور به تستنير طريق المسلم، ثم هي نور يجب أن يشع ليكون ملاذ العالمين، وهذا واجب الأمة المهدية، وأكرم به من فهم للدكتور عبد المجيد النجار لقول الله تعالى: "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا" [سورة البقرة]، حيث يقول: "يجب أن يكون الشاهد بارعا في العالم وحاضرا على ما يحدث فلا شهادة لغائب". فبراعة الأمة وحضورها في أحداث العالم أقوى سبيل لنشر نور الهداية بين العالمين، ودليل ذلك من الواقع ظاهر جلي في الثقافات التي تصدرها الأمم التي تقود العالم في قرننا الواحد والعشرين.

إذا ها هم أهل النهضة، وها هو دستورها، فكيف يكون التنزيل والعمل؟ وهنا يجب أن يتركز الكلام على منهج التنزيل لا على صوره غير القابلة للحصر، فكل تخصص له ميزاته، فيجب أن يكون له منهجه في الأخذ من دستور النهضة الذي هو القرآن الكريم. 

وكاقتراح عملي، لم لا يتم تنظيم دورات قرآنية، يقصد منها استنباط التوجيهات الربانية التي يحتاجها أهل النهضة خاصة؟ وتكون دورات دورية تؤثثها جميع التخصصات، مع استشعار أهميتها وارتباطها المباشر بمجال التخصص، وهذا ما يجب التنبه إليه، فكثيرا ما يُظن بمثل هذه الدورات أنها من المكملات، والأجدر أن تكون هي المقياس النهضوي لكل فريق أو تخصص. 

كما يمكن تخصيص لقاءات لاستضافة علماء شرعيين لا ليبينوا أحكاما شرعية فحسب، ولكن ليؤطروا فرق العمل حسب تخصصاتها، وهذا يتطلب من الضيف جمعا بين علم شرعي ومعرفة أساسية بالتخصص.

وإذا كان هذا موجها للجماعات، فإنه يتوجب على الأفراد أيضا العناية بالكتاب والدستور، ولذلك فقراءة تفسيرية للقرآن الكريم من أول الواجبات، وتخصيص وقت للجلسات القرآنية من أهم المثبتات على طريق النهضة.

والقصد من كل ذلك هو الإبقاء على جذوة العمل لنهضة الأمة متقدة في القلوب والأذهان، حتى لا ننشغل بالوسائل عن المقاصد وبالأعمال عن الأهداف، وتلك هي الذكرى التي تنفع المؤمنين. وإني لراج أن أرى اقتراحات المهتمين وإضافاتهم.