في المقال السابق تطرقنا لمرحلتي الإعداد والبناء من مراحل النهضة، وفي هذا المقال نتطرق لثلاث مراحل..  

مرحلة الاستثمار

المقصود بها هنا الاستثمار للطاقات والإمكانات والقدرات غير المحدودة لدى العنصر البشري أولًا ثم الاستثمار في الطاقات للمشاريع التنموية المختلفة وتعد المرحلة الثالثة في مراحل الوصول إلى تحقيق النهضة.

 إذ بعد المرحلتين السابقتين يتم بدء المشروع بإمكانات محدودة نسبيا مما يتعين بذل المجهود وحشد الطاقة العقلية والمادية لتحريكه وتسويقه وكسب ثماره وتشغيله التشغيل الأمثل الذي يمكن الإنسان ويمكن المشروع ورواده من بلوغ الأهداف القصيرة لإنشائه ومن أجل الادخار والاحتفاظ بشيء من عائداته من أجل تخطي الصعوبات غير المتوقعة ومن أجل تجميع مدخراته والعمل على استقطاب أكبر قدر من المستهدفين لهذا المشروع، للوصول إلى مداه وتحقيق إنجازاته في واقع ملموس ماديا وله أثر بالغ معنويًا يساهم من خلاله بالنظر مليًا في أولوياته وأن الاستثمار المادي المالي والعيني يغني عن العوز والاتكال على الغير وحث العقل على الإبداع والابتكار والتطور ويولد القوة التي تعين على تأسيس سوي بقاعدته من أجل الانطلاق في خضم التنمية وتبعاتها الوفيرة على المجتمع والأمة.

ومن دون أن يتحقق في هذه المرحلة القدرة على الاستثمار في الطاقات البشرية العقلية والمهارية وفي الاستثمار المالي والتجاري، فإن الإنسان - كجماعة أو كفرد- يكون معرضا للمهانة والعوز، حيث يبقى بين مطرقة الفقر، وسندان الحياة ومتطلباتها.

 لن تتحقق هذه المرحلة ما لم تكن هناك برمجة كاملة، وتخطيط دقيق وشامل، لاستثمار الطاقات، ووضعها في مكانها المناسب، فكيف يمكن أن يصل إلى رغد العيش وإنجاز العمل، وهو لا يعرف كيفية استثمار الطاقات التي يمتلكها؟ هذان العنصران يرتبط أحدهما بالآخر، وبالمعنى العام ليس هناك مجال لتحقيق النهضة للأمة، من دون الاستثمار الامثل للطاقات، وإن الطريق ما بين المراحل الخمس لتحقيق النهضة هو أن تجعل كل الطاقات في الاستثمار الأفضل والمناسب لها.

وإن توجيه الفكر وأسلوب الحياة، يُعد من الاستثمار الأمثل للطاقات حتى لا تكون عائقًا أمام مشاريع النهضة وحتى لا تكون ثغرة يعبر الدخلاء من خلالها فلا فائدة من أن تتطور ماديا على حساب التطور الفكري المطلوب، أي لابد أن يكون هناك توازن بين التطور في المجال المادي والاقتصادي عموما، وبين التطور الفكري والثقافي وزيادة الوعي لعموم المجتمع، وفي حال تطور أحدهما على حساب الآخر، سيحدث اختلال في منظومة القيم لدى المجتمع، وسوف ترتبك الكثير من العلاقات والأعراف والتقاليد السائدة، بين شرائح ومكونات المجتمع كافة، ناهيك عن التذبذب بين النجاح والفشل، في كيفية استثمار الطاقات المتوافرة، وقد تهدر الطاقات كما هي العادة عند كثير من الناس، وقد تصرف صرفًا ضعيفًا أو متوسطًا، وقد تصرف صرفًا قويًا يحول بين وضوح الإيجابي والسلبي منها.

وإن التطور والتحديث يحتاج إلى أجواء التحرر، من ربقة السكون والثبات وهالة التخوّف الدائم من التجديد والتغيير في مناخ الاستثمار وبث روح المغامرة والثقة بالنفس والعمل معًا، فكلما كانت أجواء الحرية متوافرة، كلما كانت فرص الاستثمار أكثر حضورا.

 إذ أن هناك ترابط بين التغيير في الحياة وطرق الاستثمار الفكرية والمادية، وهذا الترابط المتبادل يؤدي بالنتيجة إلى استثمار صحيح للطاقات، وهو ما يؤدي أيضا إلى تحقيق النهضة، التي تكفل للإنسان، الجانب المادي المساند للجانب الفكري المتجدد المتطور دائمًا، وفي هذه الحالة سيكون هناك توازن، بل وحالة تكامل بين الجانبين المادي والفكري، وسوف يساعدان على صنع الفرص العملية المطلوبة، لتحقيق النهضة.

والنجاح يكون في ظل أجواء الحرية، بمعنى أن الفردية والدكتاتورية لن تسمح مطلقا باستثمار الطاقات، ولهذا غالبا ما تفشل الأمم التي تحط من قدر مثل هذه الاستثمارات المتكاملة والمتوازنة، في مواكبة ما يحدث في العصر من مستجدات في الجانبين المادي والفكري، وهذا ما يؤكد أيضا تهميش الكفاءات، وتحييد الخبرات وكبت المواهب والفشل الواضح في استثمار الطاقات بالصيغة الأمثل، وبالتالي غياب العمل الإنتاجي الأمثل.

 إن الاستثمار للطاقات البشرية والفكرية والمالية لا يكون إلا بالحرية، فإذا لم تكن هناك حرية، لن يكون هناك نجاح أو انجاز ولن يتحقق هذا الامر من تلقاء نفسه، ولابد أن يكون هناك سعي مبرمج لتحقيق الأهداف المطلوبة، إضافة إلى توافر الإرادات الجبارة والعزائم الصلبة التي يمكنها تحويل المطامح والتطلعات، إلى حقائق فعلية مؤكدة بصورة واقعية، وفي حالة غياب الإرادة وغياب التخطيط والاستثمار الصحيح للطاقات، فإن النتيجة تكون الفقر والجهل والضياع، والفشل في إدارة الثروات من أجل توظيفها واستثمارها لصالح الشعوب المتخلفة وإن الاستثمار للطاقات كفيل بمحو الفشل وكتابة النجاح المستدام للأمة.

مرحلة التنمية

التنمية مجال واسع شامل لكل ما يمكن إنجازه فبعد الإعداد والبناء والاستثمار بعد بلوغه مستوى النمو لابد من مرحلة التنمية والتي تكون بعد بلوغ الشيء نصابه أو بعد بلوغ المشروع اكتفائه فهنا يكون للتنمية ميدان واسع وهرم له مستويات ومجالات تحتم السلوك عبرها للوصول إلى قمة التنمية وهناك تتحقق الأهداف المرسومة.

إن تشجيع المبادرات الهادفة يؤدي إلى توليد التنمية والوعي الكفيل بنهضة المجتمعات وتنمية القيادات المحلية وتقوية الروابط بينهم ومن أجل تحسين جودة حياة الفقراء في المناطق الريفية والمناطق الحضرية، من أجل اجتثاث الفقر على مستوى الشعب البسيط وهنا نذكر بعض مجالات التنمية.

التنمية المحلية والإقليمية المتكاملة

في ضوء اللامركزية في الكثير من الدول والإصلاحات الديمقراطية والمطالبة المتزايدة بالتنمية الاقتصادية ومبدأ المساءلة أمام أصحاب المصلحة المحليين والأجانب، تواجه السلطة المحلية مسؤوليات جديدة تختلف كثيرا عن أدوارها التقليدية، بل إن التعامل مع مفاهيم مثل الحَوْكَمة والتنمية الاقتصادية التنافسية الإقليمية والتنمية المستدامة والشاملة، يتطلب قدرات تناسب المقاربات المحلية والإقليمية التكاملية للتنمية، وهي قدرات ليست متوفرة دائما؛ وعليه، فإن تنمية القدرات المؤسسية الهادفة إلى تحسين الأداء في هذه المجالات، بات ضرورة لا غنى عنها.

وعلى مر السنين اكتسبت الانسانية المعرفة والتجربة العملية في التنمية المحلية والإقليمية المتكاملة والتي تجمع التكامل الأفقي بين القطاعات والشركاء بالتكامل العمودي بين المستويات المحلية والإقليمية والدولية. وتمكّن المقاربة التكاملية بين الحكومات والقطاع الخاص وتمكنهم من اتخاذ موقف إيجابي واستباقي من قضية التنمية، عبر استخدام التخطيط الاستراتيجي والتنمية الإقليمية التكاملية باعتبارهما أداتين مهمتين للتخطيط والإنماء في العصر الحالي.

التخطيط الإستراتيجي للتنمية

يعتبر التخطيط الإستراتيجي إطارا للأفعال، فيما يتمثل مفتاح تطبيق الإستراتيجيات في تسخير المزايا المحلية للعملية التنموية وتأسيس القواعد التنظيمية للتطبيق؛ ومن خلال التركيز على الأصول البشرية والمادية مثل المؤهلات الشخصية والمؤسسات المحلية والأصول الاقتصادية، وبناء قواعد تطبيقية عملية، مثل الوحدات الإستراتيجية التخطيطية والشركات الإنمائية والشراكة بين القطاعين العام والخاص والمنظومات الداعمة لدينامكيات التشغيل المحلية وقوالب العمل المتزامن، تمكن من دفع عجلة التنمية بنجاح من خلال التخطيط الإستراتيجي في مجالات الإنعاش الحضري وديناميات التشغيل المحلية والعمليات الانتقالية في القطاع الريفي والعلامات المميزة وأنشطة التدريب وتنمية القدرات القائمة على هذه الخبرة، وأن إستراتيجيات تقليص نسب الفقر مهمة لأن الفقر يمثل أهم تحدٍّ تنموي يواجه الدول النامية والمتطورة على حد سواء. 

التنمية الاجتماعية والاقتصادية

يتزايد الإقرار بأن التحدي الكامن في إيجاد فرص جديدة من خلال إنشاء المشاريع التجارية الصغيرة والمتناهية الصغر يمثل أداة لتوليد مصادر الدخل الإضافية، حيث إن المشاريع المتناهية الصغر أكثر مرونة وتكيفا مع التغيرات السريعة من الشركات الكبيرة. أما على المستوى الفردي، فإن مباشرة عمل تجاري تشكل أحيانا الحل الوحيد بالنسبة لقطاعات معينة من المجتمع كالنساء والشباب وعاملين كانوا فيما مضى موظفين في القطاع العام. 

غير أن أصحاب المبادرات التجارية الصغيرة، وبالأخص في المراحل المبكرة، كثيرا ما يفتقرون إلى المعلومات والأدوات الضرورية لإدارة أعمالهم، كما أنهم في حاجة لمعلومات محدّثة حول السوق، وبالتالي، فمن الأهمية بمكان إيجاد الأطر المناسبة التي توفر الدعم والمشورة والأدوات الإدارية لمن يُبدون استعدادا للمخاطرة بإطلاق المبادرات التجارية.

مواجهة الأزمات الطارئة ضمن المجتمع

يمثل التعامل مع الأزمات الطارئة مهمة مخيفة وقد تكون مرهبة حتى بالنسبة لأشد الناس تمرسا من بين المعالجين النفسيين والعاملين الاجتماعيين ومديري منظمات الخدمات الإنسانية وعلماء النفس والممرضات وغيرهم من المهنيين. 

وقد شهدت السنوات الأخيرة الكثير من الاهتمام برفع مستوى الجاهزية لهؤلاء المهنيين وشبه المهنيين والمتطوعين، وذلك من خلال الحلقات الدراسية والتدريب العملي خلال الخدمة لإشغال الخطوط الساخنة خلال الأزمات والعديد من خدمات الطوارئ الأخرى وأيضا من أجل تجاوز الأزمات والمشاكل المحلية الداخلية للوصول إلى بر الأمان وعدم العودة إلى مثل ذلك في المستقبل. 

التنمية الريفية المتكاملة

تتميز المناطق الريفية في البلدان النامية بمعدلات الفقر العالية، ما يحتم اتخاذ التدابير المفضية إلى زيادة الإنتاجية، ولكنه ليس كافيا بحد ذاته، فالمقاربة التكاملية في التنمية الريفية مصمَمة لتطويع فوائد الإنتاجية المعززة في خدمة دفع التنمية المستدامة عبر المشاريع التجارية الزراعية والنشاطات السياحية الريفية، البنى التحتية المحسنة وتوريد الخدمات، التنمية المجتمعية وتنمية القواعد التنظيمية للتنمية والحَوْكمة. ودعم نشاطات التدريب وتنمية القدرات المصاحبة للمشاريع التنموية في العديد من البلدان النامية.

لقد أصاب الإهمال المناطق الريفية في معظم البلدان النامية، إذ لا تسمح الزراعة ببلوغ مستوى معيشة معقول في الوقت الذي لم يتم فيه تطوير مصادر أخرى لتحقيق الدخل، وتعتبر أبسط الاحتياجات الإنسانية، من تعليم وصحة ومياه صالحة للشرب وشروط الصحة العامة أمرا صعب المنال. 

وكنتيجة لذلك يعتبر سوء التغذية ونسبة الوفيات العالية والأمية أكثر شيوعا في الريف منها في المدينة، بل إن غالبية فقراء العالم يسكنون في المناطق الريفية، ما لا يبقي أمام من يريد تحسين ظروف حياته سوى خيار واحد وهو الهجرة إلى المناطق الحضرية، ويفضَل أن تكون المدن الكبرى. 

ولكن هذه المراكز ليست مؤهلة لاستيعاب هذا التدفق الكبير، وتعاني بدورها من رداءة البنى التحتية والنقص في المنازل وعدم كفاءة الخدمات وتدني مستوى الأمن الشخصي. لذلك يقتضي نجاح التنمية الريفية تشجيع المقاربة الشمولية المتمازجة الوظائف.

التنمية الذاتية

على الإنسان أن يكون في تحرك وتطور وتنمية دائمة مستمرة، وأن يساعد نفسه على اتخاذ القرارات، وألا يقول: لا يوجد وقت لإحداث تغير في حياتي. تعتبر تنمية الذات من أهم جوانب الشخصية التي يتوجب على الفرد الوقوف عندها والعمل على تطويرها، ذلك لأن الإنسان الذي يفتقد تنمية ذاته والثقة بنفسه لن يستطيع أن يقدم أي إنجاز وسيكون وجوده بلا معنى.

أنت من تجعل الاستحالة موجودة وتجعلها تحيطك، فإذا قررت وفكرت وخططت وقمت بالفعل فلن يكون هناك مستحيل.

علينا أن ندرك أن لكل منا مفهومه الذاتي الخاص حول كل شيء من حوله، وليس بالضرورة أن نتفق مع الآخرين في مفهومنا الذاتي. والمفهوم الذاتي مكتسب، فهو يأتي من الأم والأب ثم من المدرسة والأصدقاء ووسائل الإعلام وبما أنه مكتسب فيمكننا تغييره. كما أن المفهوم الذاتي ديناميكي، بمعنى أن لديه القدرة على التغيّر والتطور، ولكن بمفهومه الخاص.

لا تلم نفسك وإنما حاسبها وتعلم من أخطائك، وحاول أن تنمّي الجوانب الإيجابية من شخصيتك، وتصحح الجوانب السلبية، أو تتخلص منها، وهذا ما يعرف بالمثل الأعلى الذاتي، ويشتمل المثل الأعلى الذاتي على خمسة أركان أساسية، وهي:

  • الجزء الروحاني: أن يكون لديك مثل أعلى روحاني، فأنت تعلم تمامًا ماذا تريد.
  • الجزء الصحي: فأنت تعرف ما تريد، وماهي مشكلتك، وتعرف صحتك.
  • الجزء الشخصي: فأنت تعرف تقديرك النفسي وتعرف كيف يتم هذا التقدير.
  • الجزء المهني: فانت تعلم في أي مجال ستحقق النجاح.
  • الجزء المادي: أنك تعلم إلى أين تريد أن تصل بنفسك.

علينا الابتعاد عن ثلاثة أمور، وهي: النقد، واللوم، والمقارنة، فكلها تشعرك بطاقة سلبية وإحباط شديد.

  • لا يجوز أن تحكم على من هم حولك بالفشل أو القوة أو الضعف من خلال المظهر الخارجي فقط.
  • على الإنسان أن يتقبل نفسه كما هي، وأن يحب نفسه على حالها، وذلك ما يعرف بالتقدير الذاتي، فالتقدير الذاتي هو تقديرك أنت لنفسك، وإحساسك بالرضى عنها.

عليك أن تدرك أن عدم تقبل الذات يوصل الشخص إلى أمرين، وهما:

  • السلوكيات السلبية.
  • ضعف الشخصية والخوف الاجتماعي.

تركيزك على أهدافك يمنحك إنجازًا وطاقة ذهنية، وكلما كنت مرنًا تجنبت الأحاسيس السلبية، ومن الأشياء المهمة لبناء شخصية قوية واثقة، أن يفكر الإنسان أولًا في حياته، ثم يبدأ تغيير جزء بسيط منها؛ ليذهب إلى مكان يرغب في أن يكون فيه.

مرحلة تحقيق النهضة

وهي مرحلة تعتبر الأسمى وهي الغاية التي تدرجت في عبر المراحل السابقة من أجل الوصول إليها وهي ليست شيء يمكن حسابه أو قياسه ولكنه شيء يمكن التخطيط له ودراسته دراسة متأنية مستفيضة تهتم بكل مجالات التنمية المتنوعة والشاملة والمستدامة دون العون الخارجي أو التسلط الداخلي الذي يكبح مستوى الابداع والتقدم. 

 إن مرحلة تحقيق النهضة هي الواقع الفعلي للقوة والوعي الحضاري بكل مستوياته الفردية والمجتمعية ولن يتم تحقيق النهضة إلا بتعاون كلي من المجتمع وبوعي متكامل حتى وإن كان هناك مشاريع فردية وذاتية ولكن المهم أنها تسعى للوصول إلى نفس الأهداف الكلية للمجتمع بانسجام وملاءمة والأهم أن كل المشاريع بمختلف درجاتها في التقدم تنظر إلى قمة واحدة وغاية واحدة هي تحقيق النهضة للفرد وللمجتمع وبالتالي تحقيق الازدهار للأمة.

إن وضوح الهدف ومعرفة الطريق المؤدية إليه ثم المشي حثيثًا في تلك الطريق هي شروط موضوعية لنجاح أي مشروع جدّي ومشروع النهضة ليس استثناءً من هذه القاعدة، فإذا عرفنا أن نهوض الأمم يبدأ بنهوض أفكار أفرادها وأنّ الطريق إلى ذلك هو مسؤولية فردية تقع على عاتق كل فردٍ من أبناء الأمة وليست مسؤولية النخب وحدها، وأنّ العمل على النهوض بواقعنا ضرورة حياتية من منطق المصلحة العامة قبل أن يكون واجبا دينيا، ويجب علينا أن نحدّد الخطوات اللازمة في خطّة عمل واضحة الأهداف، وممكنة الوسائل، قابلة للتطبيق على المستوى الفردي والجماعي وفي كل بيئة وفي كل محيط، كي يتسنّى لنا بعد ذلك المشي حثيثًا في تطبيقها. وان صياغة خطة عمل ممكنة التنفيذ وقريبة من الواقع وبعيدة عن التنظير، قائمة وهي الجزء الأهم الذي تقوم عليه قواعد سلوكنا الفردي في محيطنا والذي نملك التأثير به بشكل واع ومناسب.

والحق أن الحضارة لا قيام لها إلا بالعلم، والتميز الإيجابي الذي يطالبنا به الإسلام لا يكون في شكل الملبس ولونه ومكانة الانسان ووظيفته وإنما بالتفوّق بالعلم والعمل، وأيضا بمواكبة التطور والتقدم المستمر والابتكار المتجدد وقد ورد في الحديث "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه" والتفوق في مجال ما هو دليل الإخلاص في العمل وهذا هو غاية الإتقان.

 ومن المؤسف حقا أن ترى المسلم يزهد في بضائع بلاده ويسعى للحصول على ما صنع في الغرب ويدفع الأضعاف للحصول على بضاعة معينة من غير بلده لثقته بها وبالرغم أنها قد لا تلبي الاحتياج اللازم او اشباع الرغبة الكاملة ولكنها تحولت إلى عادة وذلك ليس إلا لعدم توفر منتج محلي ذي جودة مقبولة عدا عن أن يكون متفوقًا أو حتى منافسًا او حتى ان وجد منتج ذي جودة فإن الثقافة التي تولدت عند المسلمين قد دحضت عنهم قوتهم وحسن صنعتهم فباتوا في سبات وغيرهم يزهر ويثمر.

والنهضة المطلوبة تكون بعد النماء المتكامل والملازم للأمن والسلم في كنف العدل والحرية والأخلاق الحميدة، فعوامل النهوض كثيرة وسبلها متعددة ولكن رجالها ومن يقوم عليها قلة فإذا ما تكاتف الأفراد وتعاونت الجماعات واستقرت المجتمعات تظهر الابتكارات وتبرز كل تنمية وتترسخ النهضة وتتطور.

والحقيقة أن كل إنسان هو دعاية متحركة لأفكاره وعقيدته وبالتالي فإن الأخلاق الحميدة هي أفضل أنواع الدعوة المستمرة وخير أشكال التميز والنهضة، فقد كان أثر الوعي السليم باب من أبواب النهضة فكم من أجنبي في زماننا هذا اعتنق الإسلام بعد أن جمعه الله بناس كان سلوكهم مرآةً لأحكام الله، وكم منهم قد نفر من الإسلام لهول ما رأى من السلوك المغاير فألصق ذلك بطبيعة الدين الإسلامي، وخاصة إن كان صادرًا عن أناس التزموا بالمظهر الإسلامي وغادروا الجوهر. وقد قال محمد أسد (النمساوي) ذات مرة: "الحمد لله الذي عرفني الإسلام قبل أن يعرفني بالمسلمين".

وباختصار شديد فإن الالتزام بالأخلاق الإسلامية وبالعلم الشرعي كما أمر الله ليس واجبا دينيا فحسب وإنما هو جهاز الدعاية والدعوة الأول في مسيرة النهوض الحضاري وصمّام أمان يمنع الدعوة من الذوبان في المحيط الفاسد والقيم المادية الدخيلة، ويحافظ على التميّز الإيجابي للإنسان المسلم في كل زمان ومكان، ويفتح طرقا جديد إلى التنمية والتي من شأنها أن تحقق النهوض بالأمة برشد ووعي صحيح سليم يحافظ على مستوى التقدم ويطور من الإمكانات المتاحة ويبتكر لأجيال المستقبل وبدون التوجيهات الاسلامية لا يمكن صناعة مجتمع يقبل بالإسلام حكما ومنهجا ولا يمكن الخروج من الأزمة الحضارية التي نعيشها وحتى لا يمكن أن يتعايش مع المسلمين في ظل السهام التي توجه للمسلمين بتهم متعددة بالتطرف والتشدد وغيرها إن الوعي الحضاري والشمول الفكري والأسلوب الدعوي الأخلاقي هو من أرسى للمسلم مكانته في كل زمن.

وأختم بالقول أن هذه المراحل شاملة وهي رأي يمكن أن يضاف إليها ما يكملها أو يناسبها إن لم يكن ضمنيًا في أحدها فالحكمة للمتبصر نعمة والمهمة كبيرة من أجل ازدهار هذه الأمة.