التراجع لا يعني السقوط النهائي للحضارة، بل هي مرحلة تمر بها الحضارات، عندما تفقد شروط الريادة، وتخالف سنن الله تعالى وقوانينه التاريخية، وتراجعت الحضارة الإسلامية لأكثر من (400) سنة، ولهذا التراجع أسباب نجملها في الآتي:

الحضارة الإسلامية

السبب الأول: ضعف الجهاد العملي والدعوي 

أصبح هدف الجهاد في فترة الحكم العثماني لمجرد فتح البلاد، وتوسيع رقعة المدّ الإسلامي، وكسب الغنائم، وغاب عنهم الهدف الرسالي الذي جاء به الإسلام، ألا وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وعلى أواخر الدولة العثمانية انطبق حديث النبي صلى الله عليه وسلم((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ)) وهل هناك عقاب أسوأ من عزل الخليفة وانهيار الدولة وتحكم اليهود في مفاصلها.

السبب الثاني: عدم نقاء التوحيد

قررنا سابقاً أن الحضارة الإسلامية حضارة موحّدة، قامت على التوحيد واستمرت به، فكان التوحيد من عوامل بناء ونهوض واستمرار حضارة الإسلام، فلما تكدّر صفاء التوحيد، وغلبت عليه الشوائب فلم يعد نقياً صافياً، كان هذه السبب كافياً لأفول شمس الحضارة، زد على ذلك ظهور الصنمية والتقديس لبعض البشر، بسبب انتشار الفرق الضالة، وانشغال كثير من الناس بالجدل والمماحكات العقلية، وانعزل كثير من العلماء عن قيادة الناس، بحجة تأليف المطولات، أو شرح المجملات، أو اختصار وتهذيب الشروحات.

التوحيد

السبب الثالث: الاستبداد السياسي

ظهر الاستبداد السياسي جلياً في فترة الحكم العثماني، وصار الملك عضوضاً، وأصبح السلطان يحكم باسم الله، وتعتبر مخالفته مخالفة لله تعالى، وفي أواخر الحكم العثماني مُنع الرأي الحرّ، وضيّق على الناس في آرائهم.
وبظهور " الانكشارية " (الجيش  العثماني الخاص)  ازدادت الخلافة العثمانية ضعفاً، بصورة عامة، لأن الانكشاريين وثبوا إلى مراكز القيادة والهيمنة على السلطان، وصار الأمر بأيديهم فيعزلون من يريدون، وينصّبون من يريدون.

السبب الرابع: الانفصال بين الفكر والقيادة 

ففي أواخر الحكم العثماني انشغل السلاطين بالدنيا، وداروا مع متعهم المختلفة، وسيطر الترف على أفكارهم وأوقاتهم، وحدث انفصام بين القيم والأفكار، ولم يعد للعلماء دور في مجلس السلطان كما كان من قبل، وظهرت الشعوبية وانتشرت، حيث كان الأتراك يتحيزون لبني جنسهم ضد العرب، فزاد هذا من حجم الهوة بين القيادتين السياسية والفكرية، مما اضطر العرب إلى التحالف مع " الإنجليز " لإسقاط الحكم العثماني.
وبرزت كذلك مظاهر الاعتزاز بالقبيلة والتعصب العرق والطائفة، على حساب العقيدة الإسلامية، ومفهوم الأمة الواحدة، التي جمعت كلّ الناس على اختلاف أجناسهم، حتى وصل الأمر إلى تشكيل دويلات ومناطق حكم باسم بعض القبائل والعشائر والطوائف.

السبب الخامس: الظلم الاجتماعي 

عندما تبدأ عملية تمييز الطبقة الحاكمة بأبنائها وبناتها على عامة الشعب، ويبدأ الظلم بالظهور والاستشراء، تتدخل سنن الله تعالى لتحسم الأمر، وسنة الله تعالى في الأمم الظالمة مطردة، لا تتبدل ولا تتغير، فما استشرى الظلم في دولة استحقت ما حذرها الله تعالى منه، حيث يقول جلّ وعلا: (وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ) الأنبياء/ 11
ويقول: (فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ) الحج/ 45

" إن الظلم في الدولة كالمرض في الإنسان، يعجّل في موته بعد أن يقضي المدة المقدرة له وهو مريض، وبانتهاء هذه المدة يحين أجل موته، فكذلك الظلم في الأمة والدولة يعجل في هلاكها بما يحدثه فيها من آثار مدمرة تؤدي إلى هلاكها واضمحلالها خلال مدة معينة يعلمها الله هي الأجل المقدر لها، أي الذي قدره الله لهما بموجب سنته العامة التي وضعها لآجال الأمم بناء على ما يكون فيها من عوامل البقاء كالعدل، أو من عوامل الهلاك كالظلم التي يظهر أثرها وهو هلاكها بعد مضى مدة محددة يعلمها الله تعالى"  كما يقول د. علي الصلابي

السبب السادس: سوء توزيع الثروة

لكل دولة مقدرات تقوم عليها، وثروات تنفق منها، وأموال وعائدات من المشاريع الإنتاجية، ومما يسهم في نهوض الدولة عدالة توزيع الثروة، المتمثل في " التوزيع العادل للسلع والخدمات الضرورية بما يؤمن حد الكفاية لكل فئات المجتمع " بحيث تتحقق العدالة الاجتماعية، ويغيب التمييز بين الناس فيما يخص تقاسم الثروة، وألا تتركز في أيدي طبقة معينة في المجتمع، وألا يكون المستفيد من خيرات الدولة عدد محدود من الناس، سواء أكانوا الطبقة الحاكمة، المتمثلة في الحاكم وأبنائه ومقربيه، أم طبقة التجار ورجال الأعمال المحتكرين للسوق، وبغير ذلك يظهر الظلم في الدولة، ويستشري فيها الفساد، وتنتشر عصابات الاحتيال وتكثر حالات السرقة والنهب، التي تأخذ صوراً وأشكالاً متعددة، تؤدي إلى ظهور صراع بين طبقات المجتمع، بين الفقراء والأغنياء، وتهديد مباشر للأمن الاجتماعي للدولة، والنتيجة انهيار الدولة وفقدانها لمقومات وجودها، بسبب سوء توزيع الثروة، الذي ترتب عليه انتشار الظلم والفساد.

السبب السابع: الترف والبذخ

من مهام الدولة المسلمة نشر الخير والفضيلة، ومحاربة الشر والرذيلة، ومن أوجب واجبات الحاكم المسلم إقامة الحدود، وتفعيل واجب الأمر بالمعروف والنهي عن  المنكر، وبذا يُحفظ المجتمع، وتُصان حرمات الناس، ولست أدري كيف يستقيم أمر الدولة إذا تخلّى الحاكم عن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن  المنكر، بل وانغمس في حياة الفسق واللهو والملذات، كما كان حال السلاطين المتأخرين من العثمانيين، الذي انشغلوا بمفاتن الدنيا، ومتع النفس، وإنفاق المال العام على الشعراء والمتملقين، والتطاول في البنيان، ووضع ثروات الدولة في غير محلها.

الدولة المسلمة
ومن الأمثلة على البذخ ما كان في سنة (990هـ) "حينها احتفل السلطان مراد بن سليم الثاني بختان ولده، فوضع لذلك فرحاً لم يقع في زمن أحد من الخلفاء والملوك، وامتدت الولائم والفرحة واللهو والطرب مدة (45) يوماً، وجعل صواني صغاراً من ذهب وفضة، وملأ الذهب بالفضة والفضة بالذهب، وألقى ذلك لأرباب الملاهي وغيرهم من طالبي الإحسان".
وقد مضت سنة الله تعالى أن الترف والبذخ إذا عمّ، وأضيف إليه الابتعاد عن شرع الله جلّ وعلا، فإن ذلك مؤذن بعقاب من الله تعالى ودمار وهلاك، كما قال ربنا: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً) الإسراء/16

السبب الثامن: الانحلال الخلقي

قديما قال الشاعر  أحمد شوقي:
وإِنما الأممُ الأخلاقُ ما بقيَتْ.... فإِن همُ ذَهَبَتْ أخلاقهُم ذَهَبوا
وقد أصاب في قوله، فأكثر ما يميز الحضارة الإسلامية أنها حضارة أخلاقية، قامت على الأخلاق وارتقت بها، فكانت الأخلاق إحدى مقوماتها وعوامل نهضتها، وإن الأخلاق للدولة بمثابة الأعمدة والأركان للبيت، لذا فمن الطبيعي جداً أن ينهار البيت ويسقط إذا سقطت أعمدته وأركانه، ومن يتتبع السنوات الأخيرة من الحكم العثماني يستنتج بوضوح أن الانحلال الخلقي، كان  من الأسباب التي عجلت في انهيار آخر خلافة للمسلمين، ففي تلك الفترة توسع الناس في شراء العبيد واتخاذ الجواري، مع أن الإسلام جاء ليقضي على ظاهر الرقّ، وتفشّت السلوكيات السلبية من الأثرة والأنانية وحبّ الذات، والانغماس في الملذات، وإنفاق الأموال على الشهوات ومتع النفس، ومن كانت هذه حاله، فقد أذن الله بدماره وزواله، لأن سنن الله لا تحابي أحداً.

السبب التاسع: التمزق المذهبي وتراجع دور العلماء

في أواخر الحكم العثماني كان المذهب الحنفي هو السائد، فكان هو المذهب المعتمد عند الدولة، والمنتشر بين الناس، وهُمشت باقي المذاهب الفقهية، ولم يُتقبّل الرأي الآخر، فأُضعفت المذاهب الأخرى، ولم تُدعم حركة الثقافة.
وأغلق باب الاجتهاد، واتُّهم كل من ينادي بفتح باب الاجتهاد والتجديد بالبدعة والضلالة، وحين يُغلق باب الاجتهاد مع أن دواعيه موجودة، ماذا سيحدث ..؟ " يحدث أحد أمرين: إما أن تجمد الحياة وتتوقف عن النمو، لأنها محكومة بقوالب لم تعد تلائمها، وإما أن تخرج على القوالب المصبوبة، وتخرج في ذات الوقت من ظل الشريعة، لأن هذا الظلم لم يمد بالاجتهاد حتى يعطيها، وقد حدث الأمران معاً، الواحد تلوا الآخر.. الجمود أولاً ثم الخروج بعد ذلك من دائرة الشريعة " كما يقول المفكر محمد قطب رحمه الله تعالى.

السبب العاشر: الهجمات الخارجية

تعرضت الدولة العثمانية لحملات متتالية، مثل حملات نابليون بونابرت، التي استهدفت السيطرة على  مصر والشرق واستغلال مواردها في حروبه في أوروبا. 
ومنها انكسار الجيش العثماني أكثر من مرة، في البحر الأسود وأمام الروس، وتمادى الروس في عدوانهم وأطماعهم، حتى أخذوا يحرضون السكان في منطقة البلقان على التمرد والعصيان على الدولة العثمانية.
وبمرور السنين انتهت هذه الهجمات بوقوع البلاد العربية والإسلامية تحت نير الاستعمار لفترات طويلة، وتُوّج هذا الأمر بتسليم السلطة لأمراء وحكام وملوك عيّنهم الاستعمار الغربي، فكان ولاؤهم لمن جاء بهم، وليس لأمتهم ودينهم.