لا يكاد أمر يكثر تكراره على نسق واحد إلا ويصير عادة، يألفها الإنسان ويشق عليه فراقها أو تغييرها، ولذلك سميت العادة عادة لكون الشخص يعود ويرجع إليها الفينة بعد أخرى، ولذلك قيل العادة طبع ثان.
وهذا أمر قد يكون محمودا كما قد يكون مذموما غير مرغوب، وذلك راجع إلى ذات الأمر المعتاد. وقد كثر الحديث عن قوة العادة وعادات الناجحين مما جعل العادة شيئا مرغوبا، بل سمة من سمات قوة النفس وقدرتها على الانضباط والالتزام رغم تغير الأحوال والظروف. وهذه وجهة نظر سديدة للعادة قد يشهد لها جوابه صلى الله عليه وسلم حين سئل عن: "أحب الاعمال إلى الله؟ فقال: "أدومها وإن قل" (صحيح البخاري، رقم: 6465).
ولكن حين تتعلق العادة بالعبادة فها هنا نظرة شرعية للعادة لابد أن نطل عليها لمحاولة الوقوف على حدود العلاقة بينهما.
شَرَك العادة
أمر الله المسلم بعبادات تتنوع بين ما يتكرر في اليوم أو في الأسبوع أو في السنة، وكلما التزم المسلم المأمور منها حصل له نوع اعتياد، فتسهل عليه، ويكون ذلك أدعى لالتزامه بها والمواظبة عليها. ولكنه في المقابل قد يقع في شَرَك العادة التي تفقد العبادة روحها، بل وقد تعود عليها بالإبطال. وهذه إحدى شوائب العبادة التي يجب أن يحرص العبد على إزالتها في طريق تزكية نفسه وتربيتها، وبيان هذه الشائبة على لسان ابن القيم قوله: "أن يمازج العبودية حكم من أحكام عوائد النفس تكون منفذة لها، معينة عليها، وصاحبها يعتقدها قربة وطاعة، كمن اعتاد الصوم - مثلا - وتمرن عليه، فألفته النفس، وصار لها عادة تتقاضاها أشد اقتضاء، فيظن أن هذا التقاضي محض العبودية. وإنما هو تقاضي العادة." (1)
كيف أميز العبادة عن العادة؟
وهذا أمر قد يخفى على صاحبه فيحتاج إلى علامات وأمارات يميز بها بين ما اعتاده وما يتعبد به. وهذه إحدى تلك العلامات يذكرها ابن القيم كقاعدة فيقول: "أنه إذا عرض عليها –أي على العبادة التي اعتاد- طاعة دون ذلك، وأيسر منه، وأتم مصلحة، لم تؤثرها إيثارها لما اعتادته وألفته. كما حكي عن بعض الصالحين من الصوفية قال: حججت كذا وكذا حجة على التجريد، فبان لي أن جميع ذلك كان مشوبا بحظي. وذلك أن والدتي سألتني أن أستقي لها جرعة ماء. فثقل ذلك على نفسي. فعلمت أن مطاوعة نفسي في الحجات كان بحظ نفسي وإرادتها، إذ لو كانت نفسي فانية لم يصعب عليها ما هو حق في الشرع" (2). فكلما اعتدت أمرا واستسهلت القيام به، ثم دعيت لما هو أيسر وأسهل منه، فرأيت نفسك تستثقله وتتنكب عنه، فاتهمها فلعل عملك ذاك عادة لا حظ فيها للعبادة وابتغاء الأجر من الله تعالى.
إن أخطر ما يهدد العمل المعتاد هو أن يفقد روحه وحياته، فيغيب أثره عن صاحبه، فيقرأ القرآن فلا يتأثر، ويصلي الخمس فلا يتأثر، ويحضر مجالس العلم فلا يتأثر. وإذا تأملنا حالنا نحن المسلمون اليوم نجد كثيرين نشأوا على دين العادة بين أبوين مسلمين وعائلة وجيران وخلان وفي بلد مسلم، لا يعرفون من الدين إلا ما كان عوده أبواه ومجتمعه وما يتابعه على شاشة هاتفه، فهل تنتظر من مثل هذا أن يتأثر بله أن يؤثر؟
من العادة إلى العبادة
إن فيصل ما بين العادة والعبادة أمر ما فتئ الشرع يعلي من شأنه، بل مدار قبول العمل عليه، إنها النية والتي "إذا عدمت كان العمل عاديا لا عباديا. والعادات لا يتقرب بها إلى بارئ البريات وفاطر المخلوقات. فإذا عري العمل عن النية كان كالأكل والشرب والنوم الحيواني البهيمي الذي لا يكون عبادة بوجه". (3)
إذا هو عمل قلبي يقلب العمل من عادة إلى عبادة، هو عمل يوقظ القلب قبل مباشرة العمل والشروع فيه
تجيب به عن سؤال: ماذا أريد بعملي هذا؟ ما مقصودي منه؟ ولا تنشغل بجواب لسانك، بل دع قلبك يحدده وينطق به، فالقلب محل النية.
إن النية عمل قلب به تقذف الروح في الأعمال، ويعيش المسلم حقيقة الإسلام لا مجرد صورته ورسمه. وبهذا نفهم قول الإمام الشافعي عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" (صحيح البخاري: رقم 1) أنه ثلث العلم، واعتبار الإمام أحمد له بأنه أحد أصول الإسلام الثلاثة.
عداوات تُحفظ...
إذا علم ذلك، فاحفظ هاتين العداوتين: عدو العبادات العادات، وعدو العادات النيات. ومعالجة النيات ليست عملا مرحليا له بداية ونهاية، وإنما هو أمر يتجدد ويدوم مع المسلم في جميع شأنه حتى تتجلى فيه الآية الكريمة: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162].